تسوية نبيه بري د. عبدالإله بلقزيز لم يكن رئيس المجلس النيابي اللبناني في حاجة إلى إطلاق مبادرة سياسية جديدة للخروج من نفق الأزمة الحادة التي تشهدها البلاد، (وهي على أعتاب انتخابات للرئاسة قد تجري وقد لا تجري) كي ينتزع اعتراف خصومه والحلفاء بأنه مدير أزمات من طراز فريد. فالرجل، بخبرته الطويلة في معاشرة الأزمات المتعاقبة على لبنان منذ عام ،1975 وبموقعه على رأس المؤسسة التمثيلية (النيابية) الجامعة، عرف دائماً كيف يستبين الممكن والمحتمل في اللوحة القاتمة للمستحيلات. ومع أنه وحركته “أمل" طرف أصيل في الصراع الداخلي المحتدم منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ومنذ الاستقطاب السياسي الحاد في البلد عقب ذلك بين فريقين متقابلين (8 آذار و14 آذار) إلا أنه نجح في تظهير موقعه الدستوري على موقعه الحزبي والسياسي ومخاطبة قوى الأكثرية الحاكمة من ذلك الموقع الأول. وهو ما يقوم عليه دليل من سابقة التجاوب مع عرضه فتح حوار وطني داخل مجلس النواب حول القضايا الخلافية كافة في الأشهر الأولى من العام 2006 (قبل أن ينقض العدوان الصهيوني في صيف ذلك العام على نتائج الحوار الوطني). بل إن ذلك مما يقوم عليه دليل من الطلب السياسي الدولي والإقليمي والمحلي على دوره الوفاقي. ولقد حدث أن تعرض دوره الوفاقي للصد والرفض أو الإعراض أحياناً، وخاصة حينما آخذه من آخذه من قوى الأكثرية النيابية على تعطيل عمل المجلس (بمناسبة موضوع مناقشة مشروع المحكمة الدولية)، أو على تعطيل مشاريع الحكومة المعروضة على البرلمان واشتراطه التصديق الرئاسي عليها على ما تقتضيه الأصول الدستورية. مثلما حدث أن استشعر هو نفسه والوسط السياسي العريض الذي ينتمي إليه أن بعض تفاهماته مع القوى العربية والدولية (الجامعة العربية، العربية السعودية، فرنسا، إيران..) لقيت ما يشبه الإفشال من أطراف داخلية ودولية. ومع ذلك كله، لم يتراجع الطلب على دوره الوفاقي من قبل الجميع: من البطركية المارونية والرأي العام اللبناني إلى الدول الكبرى في الإقليم وفي العالم. أما من جهته، وعلى ما تلقاه من عنيف نقد قارب الاستفزاز والتجريح الشخصي، فقد تماسك في وجه حملات التشهير محتسباً إياها في جملة المحاولات الهادفة إلى دفعه إلى الخروج عن طوره و بالتالي فقدان مصداقيته. غير أن مبادرة الرئيس نبيه بري هذه المرة وقد اختار لها الذكرى السنوية التاسعة والعشرين لاختفاء السيد موسى الصدر مناسبة لإطلاقها لا تشبه سابقتها من المبادرات في مدى قربها أو بعدها من فرصة الصيرورة مادة لحوار وطني؛ فالأمر فيها ما عاد متصلاً بما قد تستطيعه أو لا تستطيعه من فتح أفق أمام حوار ممتنع أو مغلق بين فريقي المنابذة اللبنانية المفتوحة على غير نهاية، وإنما بات شديد الصلة بما تستطيعه أو لا تستطيعه من فتح أفق أمام بقاء لبنان وطناً وكياناً جامعاً وموحداً. ذلك أن مبادرته تبقى حتى الآن المبادرة الوحيدة المعروضة، من داخل لبنان ومن خارجه، على فريقي الخلاف قصد التسوية؛ وإلا فالمعروض من كل جانب لا يقترح على البلد سوى الانقسام، لأن كل فريق من طرفي الصراع لا يقبل بأقل من فرض شروطه على الآخر. حين ننتقل من المبادرة شكلاً، أي بوصفها مبادرة فرضها سياق داخلي مدلهم مسدود الآفاق، وأطلقها رجل دولة يقف على رأس مؤسسة من مؤسسات الدولة، إلى المضمون السياسي الذي حملته، سيكون في وسعنا أن نقرأ في معطياتها جملة من الدلالات التي لا يذهل عنها عقل حصيف: أولها أن المبادرة طرحت نفسها نظرياً كتسوية بين موقفين متوازيين متباعدين تدعو فريقيهما إلى تنازل متبادل قصد إنتاج حل سياسي. وثانيها أنها خاطبت الجميع بلغة التوافق: التوافق على نصاب الثلثين، التوافق على اسم المرشح للرئاسة، نائية بمعركة الرئاسة عن سيناريو المواجهة الاقتراعية وعن سيناريو الانقسام والرئيسين والشرعيتين المتنازعتين، اللذين ستقود إليهما منافسة منزوعة من التفاهم والوفاق. أما ثالثها، فهو أن المبادرة تطرح مشروع التسوية في نطاق الدستور الذي تنص أحكامه على نصاب الثلثين وليس خارج مقتضياته. وهذه في جملتها دلالات يشتد بها أزر المبادرة وتحميها من التجاهل والتبخيس ممن قد يستسهلون اليوم رد مبادرات التسوية راكبين أهدافهم النهائية ورؤوسهم والمجهول! على أن القارئ بإمعان في معادلة التسوية التي عرضها بري (حكومة الوحدة الوطنية مقابل نصاب الثلثين والتوافق) قد يجد نفسه مدفوعاً إلى التساؤل عما إذا كانت التسوية هذه مجحفة بحقوق المعارضة. ذلك أن إسقاط مطلب تكوين حكومة وحدة وطنية (وهو المطلب الذي رأت فيه المعارضة مدخلاً وحيداً إلى تصحيح الخلل الداب في النظام اللبناني والسبيل الوحيد إلى إعادة تكوين السلطة وإلى إعادة بناء التوازن بين قواها دستورياً وميثاقياً) لا يقابله إلا تحقيق مكسب رمزي هو دفع الأكثرية إلى الالتزام بأحكام الدستور الذي ينص على نصاب الثلثين لعقد جلسة انتخاب الرئيس والتراجع عن خيار عقد الجلسة خارج مقر مجلس النواب (بنصاب النصف زائد واحد). وقد يضيف المستغربون لهذه التسوية أن الإجحاف يضاعف أكثر حين ندرك أنه سيكون على المعارضة أن تتخلى عن مطلب حكومة الوحدة الوطنية على الرغم من أن الأكثرية ليست مجمعة إجماعاً صريحاً على نصاب النصف زائد واحد (حيث يقود الدعوة إليه وليد جنبلاط وسمير جعجع من دون سعد الحريري أو أمين الجميل)، وعلى الرغم من أن هذا النصاب غير الدستوري لا يجد القبول عند أكبر مرجع في موضوع الرئاسة “المارونية" وهو البطريرك نصر الله صفير. ولسنا نشك في أن هذا الأمر لم يفت صاحب المبادرة حين أطلق مبادرته، تماماً مثلما لم يفته أن عبارة “التوافق على مرشح للرئاسة" مطاطة وحمّالة أوجه بحيث قد ينجم عنها في النهاية تحييد مرشح المعارضة (العماد ميشال عون) مع مرشحي 14 آذار (بطرس حرب، نسيب لحود، روبير غانم..) غير أن نبيه بري يدرك أيضاً وفي المقام الأول أن لبنان الوطن والدولة ذاهب إلى التقسيم لا محالة إن لم يكن في الوسع اجتراح تسوية ولو انتقالية تكون متوازنة: لا تقتل الذئب ولا تفنِ الغنم. عن صحيفة الخليج الاماراتية 17/9/2007