صلَّ الله عليه وسلم في صبيحة الإسراء والمعراج منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام وفي مثل هذا اليوم نتذكر ما حدث للنبي (صلى الله عليه وسلم) غداة الرحلة المباركة.. لنستلهم الدروس والعظات والعبر.. لقد كان حادث الإسراء آية من آيات الله الكبرى ومعجزة من معجزاته الباهرة, التي فرج بها الكروب, وفرح بها القلوب, ميز بها النفوس.. ميز بها المؤمنين الصادقين المخلصين عن المنافقين المدعين, في منعطف خطير ومهم من تاريخ الإسلام, حيث الاستعداد لبناء دولة الإسلام في المدينةالمنورة, وما يتطلبه هذا البناء التاريخي والحضاري من رجال أقوياء ستبني علي اكتافهم هذه الدولة التي سينبثق منها نور الايمان الي شتي ربوع المعمورة أقوياء في ايمانهم.. اقوياء في إخلاصهم لله.
فجاءت حادثة الإسراء والمعراج في وقت مهم لتغربل وتنقي الغث من السمين. لتكرم المؤمنين الصادقين وترفع درجاتهم في الدنيا والآخرة, هؤلاء الذين عانوا مع النبي (صلي الله عليه وسلم) الكثير من المتاعب والآلام والاضطهاد في مكة, فصبروا علي ما أوذوا, وساروا علي المنهج الرباني والمنوال المنير, ممتثلين لنداء الحق سبحانه, ولم ييأسوا أبدا من روح الله. ولتنقي الجسد الاسلامي الطاهر من شوائب وأدران المنافقين, الذين من شأنهم ان يقوضوا البنيان من الداخل, ولكن هيهات هيهات.. يقول تعالى: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض)(الرعد17)
كان الإسراء والمعراج تسرية وتسلية للنبي( صلي الله عليه وسلم) عما لحق به من غموم وهموم في سبيل الدعوة الي الله عز وجل.. ماتت زوجته خديجة نصيرته الداخلية التي كانت تسانده وتساعده.. تحنو عليه وتخفف عن آلام إيذاء المشركين له.. ومات عمه أبو طالب, نصيره الخارجي الذي قال له: ياابن أخي, امض علي ما أنت عليه.. فسمي هذا العام بعام الحزن, ثم ذهب النبي (صلي الله عليه وسلم) إلى الطائف كي يجد هناك نصراء للدعوة الإسلامية, فما كان من أهلها إلا ان استقبلوه بغاية القسوة والعنف, إذ سلطوا عليه صبيانهم وسفهاءهم, فألقوه بالحجارة حتى دمت قدماه, فلجأ النبي (صلي الله عليه وسلم) إلى الله ورفع يديه إلى السماء قائلا: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني علي الناس, أنت رب المستضعفين وأنت ربي, إلى من تكلني, إلى بعيد يتجهمني, أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي, ولكن عافيتك أوسع لي, اللهم إني أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات, وصلح عليه أمر الدنيا من أن تنزل بي غضبك أو يحل عليَّ سخطك, لك العتبى حتى ترضى, ولا حول ولا قوة إلا بالله) (أخرجه الطبراني).. من هنا كانت الاستجابة العاجلة بالفرج من الله عز وجل لنبيه (صلى الله عليه وسلم), وكأن الله جل جلاله يقول لرسوله (صلي الله عليه وسلم): إن ضاقت بك الأرض فلن تضيق بك السماء, وإن كذبك أهل الارض فلك التصديق من الملأ الأعلى في السماء, وإن أساء أهل الأرض استقبالك, فسيحتفي بك من في السماء.. أراد الله عز وجل أن يربط الأرض بالسماء برابط قوي عن طريق المصطفى (صلى الله عليه وسلم), وهكذا فإن كان موسى عليه السلام طلب الرؤية من الله فلم يعطها, فإن الله عز وجل طلب محمدا صلى الله عليه وسلم ليراه في السماء, تكريما وتشريفا وتعظيما له ولأمته, وشتان بين الطالب والمطلوب, فالطالب هو موسى والمطلوب هو محمد, وهذه قسمة الله. وهكذا أنار الله تعالى الأرض ببعض نفحات من نوره الذي أفاض به على نبيه صلى الله عليه وسلم في السماء وعاد به على الارض. إن من أهم الدروس والعبر والهبات والمنح التي نأخذها من رحلة الإسراء والمعراج أنها كانت منهاج عمل للمسلم للقرب من الله, وكانت منهاج عمل أيضا لترسيخ الأخوة الانسانية بين جميع البشر؛ ذلك أن استقبال الأنبياء والمرسلين لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في بيت المقدس, وسلامه عليهم, وتواضعه لهم, وصلاته بهم إماما, واستقباله في السموات؛ لدليل دامغ علي عالمية الإسلام واعترافهم وإقرارهم وفرحهم ببعثته صلى الله عليه وسلم، ودليل واضح على سمو الأخوة الإنسانية وارتفاعها فوق كل الاختلافات.. وكأن الله تعالى أراد أن يعلمنا من هذه المشاهد التواصل الإنساني في أسمى معانيه, بعيدا عن الاستعلاء والنظرة الدونية للآخر, وأن المصلحة العليا يجب أن تكون هي المحرك الأساسي لكل حركاتنا وسكناتنا. نتعلم من الإسراء والمعراج كيفة الوصول إلى الله؟ وذلك عن طريق الصلاة.. الصلاة معراج المؤمن إلى الله.. الصلة بين العبد ومولاه.. الصلاة الخط المفتوح بينك وبين الله, فمن أراد أن يكلم الله فليدخل في الصلاة.. الصلاة التى فرضها الله على نبيه مباشرة من فوق, ولم يفرضها عن طريق الوحي, لعلو منزلتها ومكانتها السامقة عند الله. نتعلم من هذه الرحلة أن بعد الصبر فرجا.. وأن بعد العسر يسرا وأن الجزاء من جنس العمل.. نتعلم الصدق والصداقة من أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) الذي قال للمشركين حينما قالوا له إن صاحبك يَدَّعي أنه ذهب إلى بيت المقدس ورجع في نفس الليلة قال لهم: أقال ذلك؟ عندها فرح المشركون, وظنوا أن أبا بكر الصديق (رضي الله عنه) سيترك محمدا ويتخلي عنه قالوا نعم, وإذا به يفاجئهم بمبدئه الراسخ إزاء رسول الله (صلى الله عيه وسلم) قائلا لهم: إن كان قال فقد صدق ولو قال إنه عرج به إلى السماء لصدقته, إنني أصدقه فيما أبعد من ذلك. ومن أهم دروس الإسراء والمعراج كثرة الذكر لله واستحضار عظمة الخالق العظيم. فعن ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):( لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غرسها سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر).. وبعد فياليتنا نجعل من دروس هذه الذكرى العطرة منهاج عمل وطريقا للوصول إلى الله سبحانه وتعالى...