مررت الليلة بميدان التحرير، فخرجت منه كما أتيت، لم أشعر بتلك القشعريرة التى اعتدتها تسري بأوصالي كلما سرت فى جنباته، ولم ألمح إلا قليلا من هذه الوجوه التى كانت تتألق قسماتها من وراء الملامح المفعمة بالإنهاك اللذيذ، المتوضئة بسهر الاعتصامات أو المنتشية بخوض أنبل معارك التاريخ وأكثرها سلمية، ضد جحافل المدرعات وإرهابيي الأمن المركزي المدججين بالقنابل مسيلة للدموع وغازات الأعصاب المحرمة دوليا، وطلقات الخرطوش والمطاطي والحي، المكتوب على كل رصاصة منها: (مع تحيات الشرطة والعسكر)... الوجوه لم تكن هي الوجوه ... والمكان لم يعد المكان، والميدان ليس ميداني الذي حفرته ورفاق الثورة بدمائنا وعرقنا ودموعنا وأظافرنا في طريقنا إلى الحرية، فالحرية اعتقلت ... والسلمية ماتت ... وحتى الجو بات ملبدا بهواء خانق وكأنه خال من الأوكسيجين...! أحاول الاقتراب من الخيمات المنصوبة فى "الصينية" بالطريقة ذاتها كما كانت قبل عامين، فى موقع القلب من "التحرير"....... الأحاديث الدائرة لم تعد بذات المعني، الكلمات تائهة، وأحيانا حمالة أوجه، أغلبها زائف ومكرر إلى حد الادعاء المفضوح، تماما مثل النظرات المرسومة على أعين أناس، معظمهم أراهم لأول مرة، منهم من يحاولون حشر أنفسهم في أركان المشهد، ولكن سرعان ما تتضح غربتهم عنه، وعن أهله، وعن لغته التى لا يتقنها إلا أسياد الميدان....... وبعضهم يذكرني بمن اعتادوا الصراخ بي وبأمثالي منذ الأيام الأولي للثورة، وهم يلقون علينا نفاياتهم اليومية من عبارات التثبيط والإحباط: "اهدو بقي هو انتو مش طردتو أحمد عز وحرمتو جمال من الرئاسة ... ما كفاية بقي ... هو انتو مش خلعتو مبارك... عاوزين ايه تاني... خربتو البلد... خلّو العجلة تمشي... سيبوا البلد تستقر"...! خرجت من الميدان وأنا أردد بحسرة: ياليتنا ما قمنا بالثورة...! ثم تطرق ذهني حقائق تداولتها التقارير الرسمية المحلية والدولية وكانت كلها تؤكد قبل شهور من يناير 2011، أن النظام الحاكم قد تحول إلى ديناصور منقرض، وأن عمره الافتراضي قد انتهي، وأن رفضا شعبيا – صامتا – لكنه مستمر فى التصاعد لحد الغليان ضد توريث مصر وشعبها كقطيع من النعاج، من الأب إلى الإبن برعاية "الروح القُدُسْ، الشهيرة بسوزان"... وبالتالي فقد كانت الثورة – على استحالة تصورها وقتئذ، بنا أو بغيرنا – أمرا محتوما. ثم تقفز إلى ذاكرتي فجأة ، مشاهد القتل الراهنة والدائرة بلا رحمة بين المصريين والمصريين، كما حدث فى معركة الاتحادية الأخيرة، وهو ما لم يحدث أثناء الثورة فى ذروة اشتعالها، بيننا وبين أعدائنا من فلول وعسكر وداخلية، فأجد أقدامي تقودني مجددا إلى الميدان، لأعلنها وسط من تبقي فيه وأعرفهم من الثوار: انسحبوا الآن من الميدان، فهو لم يعد ميداننا وليست هذه ثورتنا، بل إنها ليس ثورة أصلا، وهؤلاء المتشاركين معنا الخيام، ليسوا منا، بل قريبا كانوا علينا وضدنا، أيديهم ملوثة بدمائنا، وألسنتهم مجرمة بالخوض فى أعراض نسائنا، اللاتى لم يعرف تاريخ البشر المكتوب أطهر منهن، فهن اللاتي ضحَّين بشرفهن من أجل أن يسلم شرف مصر من الكلاب والذئاب المسعورة ........ بينما ساديي العسكر يتلذذون بهتك أعراضهن، وأشباه الرجال على الأرائك يتساءلون بعهر: "إيه اللي نزلها التحرير أصلا؟"..!!! حاولت إقناعهم أن مكاننا الآن، بعيدا عن الميدان، وأن المعركة ليست بين حق وباطل، ولا بيننا وبين نظام ظالم، ولكنها صراع على الكعكة بين قوي الظلام من جهة، ومن جهة أخري بقايا عهد الطغيان. أن الإخوان إذا غلبوا فلن تنتصر سوي "الجماعة"........ وأن "الفلول" إذا كانوا هم الغالبون، فإن من ساندوهم من الثوار، بدعوي وحدة الهدف، سيكونوا أول ضحاياهم، على طريق استعادتهم لنظامهم الساقط. وفي كل الأحوال ستدفع مصر الثمن، ولن تجد وقتها من يدافع عنها لأنها ستكون قد فقدت أقوي جيوشها: رجال الثورة، الذين حاربوا بصدورهم العارية، زباينة أشرس نظام ديكتاتوري فى التاريخ، لم يطلق أحد منهم رصاصة واحدة، كما فعل الجبناء والعملاء من هؤلاء وهؤلاء، عندما توهم كل منهم أنه يمثل الثورة، وكلاهما (كَذَّابٌ أَشِرْ). فالإخوان أول من خانوا الثورة وجلسوا بحضور محمد مرسي مع قتيل الخيانة عمر سليمان، ومن بعد ذلك مع جاسوسة الكيان الصهيو أمريكي "آن باترسون" من أجل تعبيد طريقهم إلى عرش مصر ....... والفلول هم أعداء الوطن وقتلة شعبه قبل أن يكونوا أعداء الثورة وقتلة الثوار. انسحبوا الآن أيها الثوار قبل أن تفوتكم نقطة الرجوع، ارجعوا عن المعركة التى ستخسرها مصر فى كلتا الحالتين، لأنها ستكون فتنة وبحور دماء. ارجعوا فإنها ليست معركتم، ودعوهم يُصَّفُّون بعضهم بعضا كالوحوش الضارية، واحقنوا دماءكم وما تستطيعون من دماء أبناء بلدكم، حتى يبرئكم التاريخ من عار ما بعده عار. ارجعوا يا أنبل من وُلدوا من طينة هذا البلد الأمين، قبل أن يأتي عليكم زمان، يتشدق فيه أحدكم بقتل أخيه في الوطن، حتى ولو كان من الفلول، ويصرخ آخر بأعلى صوته كالمعتوه: إحنا اللي قتلنا الإخواااااااااان........!!!