تحرير- عبدالباسط عياش: أسيوط- مارس 1919: رياح خفيفة تداعب الوجوه، محملة بأصوات نقاشات هادرة حينًا وفاترة حينًا آخر، وكان هذا السكون المريب يخفي غضبًا عارمًا، بعد أن بلغ الأهالي خبر اعتقال سعد زغلول ورفاقه. خرج طلاب المدارس يهتفون "سعد سعد يحيا سعد..."، انضم إليهم المارة، فتحوا الصدور أمام البنادق، عمَّر الجنود أسلحتهم وصوبوها تجاه الشعب الأعزل، وحتى هذه اللحظة كانت المظاهرات تلتزم السلمية. صباح 10 مارس حركات سلمية تجوب شوارع أسيوط أبطالها طلاب الثانوية والمعاهد الأزهرية ومدرسة أخوان ويصا. انتشرت تلك المسيرات السلمية كالعدوى في باقي المدارس الأخرى، استمرت طيلة أربعة أيام حتى 18 من مارس، لتبدأ السلطة في حملة اعتقالات طالت أشخاصًا بعينهم، بتهمة التحريض والإثارة، بحسب الدكتور محمد عبدالحميد الحفناوي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب جامعة أسيوط. حملة الاعتقالات طالت أشخاصًا بعينهم، وبلغ الأهالي أنهم تعرضوا لإهانة وتعذيب في سجون الإنجليز، هل تكسر تلك الواقعة عناد المتظاهرين؟ أدرك الأهالي أنه لا أمل في تلك المظاهرات السلمية، في الوقت الذي كانت الأنباء تناثرت هنا وهناك عن قدوم بعض ضباط وجنود الإنجليز في القطار المتجه إلى القاهرة والقادم من الأقصر. عندما وصل قطار الأقصر ديروط كان الأهالي في انتظاره، كان به ثلاثة ضباط وخمسة جنود إنجليز، منهم القائم مقام بوب بك، مفتش السجون في الوجه القبلي، والميجر جارفي، والملازم ويلي، قتلوا جميعًا، الحفناوي يصف الحادث بأنه: حادث لم يسبق له مثيل منذ واقعة دنشواي. الانفجار الثوري تأزمت الأمور وبدأ الثوار يتجمعون في الجانب الغربي من أسيوط، وصدرت أوامر إنجليزية للبكباشي محمد كامل، مأمور بندر أسيوط بمواجهة نحو ألف ثائر بالقوة. البكباشي الشاب كان الدم المصري غلى في عروقه، وبدلًا من تنفيذ أوامر الإنجليز اتفق مع الثوار أن يساعدهم ويمدهم بالأسلحة. وبالفعل فتح كامل غرفة السلاح "السلاحليك"، أمام الثوار ليأخذوا منها ما شاءوا، تحول هو الآخر إلى ثائر. في شمال ترعة الإبراهيمية، نشر الإنجليز قواتهم، ليشتبكوا هناك مع الأهالي أيضًا، ما أسفر عن استشهاد عدد من الثوار، الذين أشعلوا النيران في "التبن" الذي خصصه الإنجليز لإطعام خيولهم. الصفعات المتتالية التي وجهها الثوار للقوات الإنجليزية، جعلت قوات الاحتلال في 24 من مارس تستخدم أقوى طرق الردع، دكوا أسيوط بالقنابل والطائرات بوحشية لم تفرق الطائرات بين أحد، ليسقط مئات القتلى والجرحى، وعلى عكس المتوقع فقد قابل الأهالي الغارات بمزيد من الهجوم على معسكرات الانجليز. ومرت أيام على تلك الحادثة الأولى في الصعيد، ورائحة البارود ما زالت تنتشر في كل مكان، ليعلن بعدها الإنجليز أنهم سيفتشون البيوت ليلًا وعلى الرجال مغادرة منازلهم وترك نسائهم فيها، ليهجر الأهالي البيوت بصبحة نسائهم إلى المقابر والكهوف والصحراء والأديرة. محاكمة الثوار بعد أن عاد الهدوء إلي أسيوط، قرر الاحتلال معاقبة الثوار، فألقي القبض علي 400 ثائر، بتهمة إثارة الشغب، فضلًا عن سرقة ونهب بيوت الأهالي وإشعال النيران فيها. أبرز المشاركين في الثورة أبو المجد أفندي، معاون بوليس ديروط، ومحمد حسين أحمد السبع، ملاحظ بوليس نقطة ديروط، وزين أفندي قرشي، من عائلة قرشي بديروط، ومحمد كامل، مأمور بندر أسيوط، وجميعهم حوكموا بتهمة مساعدة الأهالي في الثورة. وانتهت ثورة 19، ورحل الإنجليز وظلت أسيوط شاهدة.
رجعنا في هذا الموضوع إلى: * محمد عبدالحميد الحناوي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب جامعة أسيوط * جمال بدوي، كان واخواتها،ج1، ص132، ط1 1986