1⁄4 إلي أين تمضي سفينة الوطن.. وكيف تبحر بلا جدول أعمال ولا بوصلة ولا رؤية للمستقبل..؟! هذه الأسئلة وغيرها طرحها عليَّ الكاتب الشاب نشأت الديهي أثناء رئاستي لتحرير كتاب الجمهورية أواخر 2008.. قال إنها نواة لكتاب يفكر في إعداده تحت عنوان ¢ مستقبل وطن ¢..ثم ذهب وعاد بعد 15شهرا بمحاورات خصبة تمخضت عنها عقول 40 قامة فكرية وثقافية اقتحمت قضايا مسكوتا عنها وأرهصت بالمستقبل وأجابت عن أسئلة اللحظة الحرجة وقتها .. لكن جرأة الكتاب و اختراقه حواجز الصمت جعلاني أطلب إليه أن يبحث عن دار نشر خاصة بعيدا عن مؤسستنا القومية التي لا يمكنها استيعاب أو تحمل تبعات مثل هذا الكتاب..!! وبالفعل خرج الكتاب إلي النور وكأنه يقرأ الغيب من ستر خفي. ودق أجراس خطر قوية مزلزلة.. لكن الآذان كان بها صمم حجب عنها التحذيرات الزاعقة.. وتلقفت نقابة الصحفيين حينئذ هذا العمل بحفاوة ونظمت له ندوة لمناقشته حضرها رموز من النظام السابق دون أن يتنبه أحد لخطر قادم تنبأ به ضمير هذا الوطن وعقله وصفوة نخبته ورجاله. وقد لخص الكاتب المشهد المؤلم بقوله: ¢ وطني كالرجل علي كرسي متحرك ¢ ثم مضي يطرح الرؤي والآراء التي قدمها إليه محدثوه.. وكانت المفاجأة التي أذهلت بل ألجمت الجميع أن ثورة يناير كانت الحل الناجع الذي بشر به هؤلاء وتوقعوا حدوثه.. لكنها لم تكن متوقعة بمثل هذه السرعة وهذه القدرة. 1⁄4 يقول الديهي : ¢ إن التساؤل أصبح سلعة نادرة يصعب تداولها داخل المجتمع. وتضافرت حزم الأزمات لتصنع واقعا مريرا يتجرعه المصريون. وصار إعمال العقل شيئاي من الجنون واختلطت جميع الأوراق. وتلاشت الخطوط الفاصلة بين الثوابت والمتغيرات وصار كل شيء مستباحا وانشغل الجميع بأحداث قاتمة ومظالم قائمة واتسعت دائرة الخلاف حول مشروعات هلامية وغابت الحوارات الجادة وتعددت الرؤي والآراء وانساق المثقفون إلي السلطة زمرا حيث جري استيعابهم في حزب النخب المنسحبة بينما رفعت الأقلية الحاكمة الشعار الكاريكاتوري ¢ مصر بتتأدب بينا ¢.. لكن المحزن أن أحدا لم يفكر في وطن يسير بلا جدول أعمال.. بلا رؤية.. بلا أجندة.. بلا أولويات.. ولم تعد كلمة وطن تعني الكثير.. فهناك من يتساءل : متر الوطن بكام.. ويعني إيه كلمة وطن ؟!.. لقد انصرف الجميع إلي مصالحهم الشخصية وانفضوا من حول الوطن لكن لا يمكن أن نستمر عند هذا الحد من التراجع فخطوة واحدة إلي الخلف ستدفع بنا جميعا إلي قلب الهاوية التي نقف عند حافتها! إن بقاءنا في المكان نفسه والمكانة نفسها يمثل وضعا كارثيا لم تشهده البلاد منذ أمد بعيد وبمرور الوقت يتبدد الأمل وتتسرب من بين أيدينا كل فرص الحياة ولم يبق أمامنا من نور الدنيا سوي ضوء خافت يمكن أن نهتدي به لنخرج من النفق المظلم. كي نشارك في معركة البقاء ثم الانطلاق لإقامة المستقبل المأمول..!! إذن.. من أين نبدأ المعركة.. فأي خطوة نخطوها نحو المستقبل هي خطوة نحو الحياة ذاتها.. ولكن لا وقت للبكاء علي اللبن المسكوب أو المسلوب¢.. 1⁄4 انتهي كلام الديهي.. لكن الأسئلة لم تنته بعد.. هل تغيرنا بالفعل بعد ثورة يناير.. هل أصبح لدينا رؤية وجدول أعمال للمستقبل.. وهل حددنا أولوياتنا أم مازلنا نسير بطريقة عشوائية ونغرق في ردود الأفعال ونلهث وراء المستجدات دون أن نمسك في أيدينا ولو خيطا أو زماما واحدا؟! هل خاصمت البسمة شفاه المصريين وحل محلها الإحباط. والمزاج النفسي العكر المتوتر. كما يقول أحدث التقارير الطبية إن عدد المصريين الذين يذهبون لمستشفيات الأمراض النفسية والعصبية في تزايد بعد الثورة؟! لا شك أن الشخصيات التي حاورها الكتاب ذكرت جميع أسباب قيام ثورة يناير دون أن تدري أو تتوقع للحظة واحدة أن سماء مصر كانت ملبدة بسحب ثورية ممطرة في قلب الشتاء في نهاية يناير..وما أدراك ما يناير !! وكما شخصت تلك الشخصيات العلة والداء لم تنس أن تقدم حلولا ناجعة وإجابات عن أسئلة خطيرة وبالغة الأهمية.. ولنبدأ بما جاء علي لسان الكاتب الكبير سلامة أحمد سلامة حيث يقول رحمه الله : ¢ المستقبل لن يقبل أوراق اعتماد الشعوب المتخلفة ولن يمد يده لمصافحة الضعفاء. والحديث عن المستقبل لم يعد من متطلبات الرفاهية بل أصبح من اشتراطات البقاء..إننا نعيش حالة تراجع شامل علي جميع المستويات.. فكيف يمكن أن ننطلق للمستقبل ونحن علي هذه الحالة الاستثنائية.. لقد انهارت عملية بناء الإنسان المصري من خلال اضمحلال المؤسسات التعليمية والبحثية والتربوية ولا سبيل للخروج من هذا النفق المظلم إلا بسرعة إصلاح منظومة التعليم والبحث العلمي. فالتعليم هو حجر الزاوية ونقطة الانطلاق لأي محاولة إصلاحية والبحث العلمي من ناحية أخري هو الأساس لأي محاولة جادة للإصلاح! 1⁄4 وبعد إصلاح التعليم والبحث العلمي يمكننا الوصول للناس والجمهور العام من خلال وسائل الإعلام وبدون إصلاح التعليم فلن يستطيع الناس فهم رسالة الإعلام وكل ذلك مقدمة مهمة للخطوة التالية وهي الإصلاح السياسي الذي لن يتحقق دون إصلاح التعليم ومن الخطأ الاعتقاد بأن إصلاح الاقتصاد وزيادة الدخل هو الأساس. فالذين استفادوا من هذه النظرية فئة قليلة جدا هي الفئة المتعلمة التي تجني ثمار الإصلاح الاقتصادي.بينما سقطت الغالبية العظمي في براثن الفقر وقاع التخلف لذلك فالإصلاح السياسي ضروري جدا ولن يتم إلا بإصلاح التعليم. فإذا كان هناك نظام تعليمي سليم فإن الطفل يتعلم كيف يدافع عن حقوقه منذ الصغر. وينتقد معلمه بأدب ويعلم نظام المرور. ويعرف ما واجباته!! 1⁄4 يواصل سلامة تشخيص العلل ووصف الدواء وكأنه يوجه رسالة للجمعية التأسيسية للدستور فيقول : إن سلطة القضاء لابد أن تعلو فوق جميع السلطات ولابد أن يكون هناك فصل تام بين السلطة القضائية والسلطتين التشريعية والتنفيذية فلا توجد دولة واحدة في العالم يتولي رئيسها رئاسة المجلس الأعلي للقضاء والأعلي للشرطة. وينبغي كذلك أن نعيد للقضاء هيبته واحترام تنفيذ أحكامه.. وأيضا لنظام الأمن حدوده. فالأمن هو أمن المجتمع كله وليس ¢ أمنا ¢ علي المجتمع. وليس أمنا خاصا بفئة معينة. فناك طائفة معينة تنعم للأسف بالحماية وتكرس جميع الجهود والإمكانات لحمايتها.. أما أمن الشارع فلا يهم.. ولا غضاضة أن ترتفع معدلات الجرائم في المجتمع ولا أن تشتعل فوضي عارمة في كل مكان. 1⁄4 المجتمع المصري يتراجع ويتقهقر للوراء.. إن مصر مقدمة علي كارثة اقتصادية فهي أصبحت لا تنتج شيئا علي الإطلاق.. إننا نستورد لنأكل. ونأكل لنتكلم.. إننا نستورد من الصين ومن دول جنوب شرق آسيا وأوروبا وأمريكا واليابان.. إنه سفه استيرادي مستفز. لقد تحولنا لسوق كبير لجميع المنتجات المستوردة. إننا بالفعل لا ننتج وفي الوقت نفسه نفرط في العقول التي يمكنها أن تبني النهضة المأمولة لمصر¢.. 1⁄4 تري لو كان سلامة أحمد سلامة حيا بيننا هل تراه كان يتراجع عما قاله. ويشخص الواقع الماثل أمامنا بعبارات أخري غير الرثاء والحسرة والألم.. وهل تسير مصر - الثورة في الطريق القديم أم غيرت وجهتها ومسارها وامتلكت بوصلتها الصحيحة نحو الأهداف المرجوة.. هل نفكر في المستقبل ونعد له عدته أم مازلنا غارقين في الماضي وسراديبه وحساباته وتركنا الحاضر يئن والمستقبل يتسرب من بين أناملنا.. وإذا كان التعليم والبحث العلمي هو الملجأ وقاطرة الإصلاح التي يمكنها أن تنتشلنا من قاع التخلف الذي هوينا إليه باندفاع وسلبية.. فهل فعلنا شيئا ملموسا لإصلاحهما.. وإذا كانت الإجابة بالنفي وهي قطعا كذلك فلماذا لم يلتفت إليه صناع الدستور الجديد.. وهل مازلنا نملك روح الثورة وأخلاق الميدان أم جمعتنا الآلام وكراهية النظام السابق وظلمه وفرقتنا السياسة والمطامع والأهواء.. وهل أدركنا حكمة وشجاعة من وجهوا سهام النقد للنظام السابق في عز جبروته ابتغاء صالح الوطن.. ولم يخشوا في الله لومة لائم.. وهل يمكن أن يتسع صدرنا اليوم للنقد أم يضيق بعضنا ببعض.. ؟! 1⁄4 ونستكمل الأسبوع المقبل !