خلية النحل الحركة فيها لا تتوقف على مدار 24 ساعة، فهذا مصاب تنقله عربة الإسعاف، وهذا طبيب يجرى ليسعف آخر، وهذا شهيد وصل للتو، وهذا طفل صغير يقف الأطباء حوله فى محاولة لإنقاذه، وهذه آلة إعلامية تنقل الحدث والمأساة التى يعانيها شعب فلسطين، وهؤلاء موظفون إداريون يسجلون الدخول والخروج، وتلك قيادات وأفراد من الشرطة للتأمين. هكذا تبدو مستشفى "الشفاء" بغزة، ذلك المكان الأقل خطرا فى القطاع، ومع ذلك يُستهدف كل ما حولها بالطائرات والصواريخ، دون مراعاة لإنسانية أو مرض أو حرمة الموتى. الطريق كان صعبا من معبر رفح الحدودى إلى المستشفى، حيث كان من الخطر الشديد أن تسير سيارة منفردة على الطريق، خوفا من استهدافها سواء من طائرات الاستطلاع أو مقاتلات ال(إف 16) التى لا تترك هدفا متحركا على الأرض إلا ضربته وقذفته بنيرانها. أمن حماس أصر على أن يكون الطريق فى صورة قافلة مكونة من عدة سيارات، وقد كان، حيث إن شوارع المدينة الباسلة كانت شبه خالية فى التاسعة مساء، فلا أحد يسير فيها، والمحلات مغلقة، بل إن أنوار البيوت منطفئة، وكأن حظر التجوال قد فرض، أو بمعنى أدق كانت مدينة أشباح. وعلى الرغم من التأمين الذى أصر عليه أمن حماس فى طريقة التحرك نحو المستشفى، إلا أن قاذفات الكيان الغاشم لم تهدأ حول القافلة، فهذا صاروخ على بعد 50 مترا يسار القافلة، وبعده بخمسة دقائق صاروخ آخر على بعد 100 متر، وهذا ثالث خلف القافلة، وكأنها رسائل تهديد ووعيد لكل المتضامنين مع القطاع. اللون الأحمر هو السمة السائدة فى المستشفى فى كل أحوالها، فما إن تدخل منها إلا وتجد الدماء فى معظم الأماكن، على درجات السلم وفى مكاتب الاستقبال، وفوق حاملات المرضى، فضلا عن كل طرقات المستشفى بلا استثناء، نتيجة تساقطه من الجرحى والمصابين. على باب المستشفى تقف سيارات الإسعاف تنتظر دورها فى إدخال المصابين، فكل خمس أو عشر دقائق تسمع صفارات السيارات، وعلى إثرها تخرج الطواقم الطبية لإسعاف المصابين. تتنوع الإصابات القادمة إلى المستشفى رغم أن القصف واحد، فهذا مصاب بترت قدماه، وآخر مصاب بحروق، وثالث يعانى من كسور فى أنحاء مختلفة فى جسمه، وهذا طفل هيئته الخارجية بلا إصابة إلا أن ينزف من دون جروح نتيجة انفجار فى الرئة أو القلب أو المخ أو انفجار أحد الشرايين بسبب القنابل الارتجاجية. يرافق الأطقم الطبية طاقم تمريض يقوم على إسعاف المصاب بأقصى سرعة، ويتنوع ما بين من يجمع الشاش، ومن يحضر المطهر، وآخر لا يجد خيطا طبيا بعد ما نفد من كثرة الاستخدام، فيجرى ليحضره من المخزن. أما الإصابات الحرجة والخطرة فتُحمل سريعا إلى العناية المركزة، فى الوقت الذى يحاول العاملون بكل ما يستطيعون عدم إهدار أى من المستلزمات الطبية، لندرتها وعدم توفرها فى القطاع بأكمله. فى ظل هذا تجد الأهالى يبكون على أبنائهم وإخوتهم وأصحابهم وجيرانهم، تجدهم يصرخون على شباب وأطفال قد قطعت أرجلهم أو أيديهم أو أصيبوا بشلل جراء القصف. أصعب الصراخ يكون على الأطفال الصغار، خاصة حديثى الولادة، فهذه طفلة قد حملها أبوها على يده وتمسك بها أمها، فى هيئتها الخارجية غير مصابة بأى شىء، إلا أنها تنزف من فمها وأنفها بصورة كبيرة، يجرون بها إلى العناية المركزة، فلا تجد لها مكانا من كثرة المصابين، فيكشف عليها الطبيب وهى على أيديهم ليكتشف انفجارا فى شرايين الدم نتيجة القنبلة الارتجاجية. وهذا أب يحمل يد طفله المقطوعة ويبكى أمرّ البكاء، ويقول: "كيف يقضى باقى عمره بغير يده اللهم لا اعتراض". وأمام العناية تقول أم لطفل يبلغ من العمر سبع سنوات: إن القصف طال بيت جيرانهم لكنه تسبب بقوته فى طيران ابنها لمسافة تعدت عشرة أمتار، فوجدت نفسها بصورة تلقائية ولا إرادية تطلق الزغاريد فرحا بابنها الشهيد، وتجرى عليه لتحتضنه، فتجده حيا ولكنه يعانى من نزيف داخلى، فتحول فرحها إلى فرحتين، ليكمل والده قائلا: "والله ما فرحنا بأن وجدناه حيا بقدر فرحنا من كونه سيكون شهيدا يشفع لنا يوم القيامة". أما النحيب إن وجد داخل المستشفى فيكون على الشهداء الذين قضوا نحبهم بعد ما فشل الأطباء فى إسعافهم سواء لسوء حالتهم الصحية أو لنقص الأدوية والعجز الشديد الذى يعانى منه المستشفى. فأم محمد تبكى شهيدها وولدها الوحيد الذى أصيب فى حرب الفرقان 2008 وبترت قدمه اليسرى، وتقول: "فرحت به شهيدا ولكنى حزنت على فراقه"، كما تحمل أم طفلتها الرضيعة على يدها وتبكى وتنتحب، ويقف بجوارها زوجها الذى يحاول أن يهدئ من روعها ولا يستطيع وقف دموعه ويقول لها: "إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا.. إنا لله وإنا إليه راجعون". أبو عبيدة يبكى أخاه قائلا: "زوجتك وأولادك فى عيونى، نم قرير العين يا شهيد، وأبلغ رسول الله منا السلام، وقل له إنا على الدرب سائرون". أما الموقف الذى ضرب أروع الأمثلة فى الصمود فيتمثل فى ذلك الشاب الذى لم يتعدَّ أربعة عشر عاما من عمره، يقف أمام أمه وأخواته الثلاثة وهم على أسرة المستشفى يقرأ الفاتحة لهم بكل ثبات ويقين وثقة فى وعد الله، بل وينادى على ابن عمه الذى استشهدت أخته فى قصف البيت نفسه ويقول له: "اقرأ الفاتحة لهم، ليرحمهم الله، ويرحمنا معهم". أما أحد أصعب المواقف التى حدثت فتلك التى وجدنا فيها سيارة الإسعاف تهرع إلى بيت قد قُصف بالطائرات على أهله، ليعودوا إلى المستشفى ب9 شهداء منهم 5 أطفال وسيدتان. ثلاجات الشهداء فى المستشفى ممتلئة طوال الوقت، فما إن يخرج شهيد لتشييع جنازته إلا ويدخل آخر مكانه. فى ظل هذا كله تجد القصف لا ينقطع حول المستشفى، حتى ظننا أنه فى إحدى المرات أنه قد قصف الحافلات التى تقلنا، كما ظن المصابون أن القصف قد طالهم داخل المستشفى أيضا، ووقتها وجدنا الأطباء والأمن، بل وبعض المصابين هم من يهدءون من روعنا، ويقللون من خوفنا، ويؤكدون أنه خارج إطار المستشفى، ولن يصل إلينا. الخبرة التى تولدت لدى الأطباء ورجال الأمن فى المستشفى جعلتهم يعرفون بالتحديد مكان القصف من سماع صوته، فما إن سُمع صوت إحدى الغارات حتى قال أحد العاملين: إن هذا القصف فى حى الشجاعية، وعند ما سمع قصفا آخر قال إنه فى قسم شرطة بنى عباس. ومع هذا الكم من المصابين والجرحى والشهداء تجد أهالى غزة الصامدين يوزعون الابتسامات ويبثون إشراقات الأمل والنصر والتمكين وزوال الاحتلال وتحرير الأرض، حتى إن أحد الأطباء قال بعد ثوان من الانتهاء من تضميد جراح أحد المصابين: "سنحرر فلسطين، وسنصلى فى الأقصى، قم وانهض فالمعركة تنتظرك