بعد الاهتمام الذي أولته الدوائر الداخلية والخارجية بزيارة الرئيس مرسي للصين، يجب أن نسترجع رؤية المفكر الراحل الدكتور أنور عبد الملك الذى أكد منذ زمن طويل على أهمية وضرورة التفاعل العميق بين الثقافتين المصرية والصينية. ولعل هذه الزيارة التى يقوم بها أول رئيس مصرى منتخب بإرادة شعبية حرة للصين بعد ثورة 25 يناير مناسبة لقراءة ثقافية دالة فى أفكار الدكتور أنور عبد الملك الذى يكاد يكون فى طليعة المثقفين المصريين الذين تنبهوا ل"رياح الشرق الجديد" وأهمية أن تولي مصر والعالم العربى- الإسلامى الاهتمام الكافي بالمشروع النهضوي الصيني وتستفيد منه دون تفريط فى الخصوصية الثقافية- الحضارية. فمنذ خمسينيات القرن العشرين دعا المفكر المصرى أنور عبدالملك، العالم العربى -الإسلامى للتفاعل مع الدائرة الحضارية الصينية، فيما درس بعمق الحضارتين المصريةوالصينية بنظرة ترنو لصعود الحضارة العربية- الإسلامية من جديد فى المشهد المعاصر للعلاقات الدولية. وعلى مدى سنوات طوال، كان الدكتور أنور عبد الملك مهموما بإشكالية النهضة في العالم الإسلامي وتجاوز الهيمنة الثقافية الغربية التى امتدت قرونا والبعد الحضاري الكامن وراء الصراعات الدائرة في العالم ومواجهات الغرب والشرق. وتبنى المفكر المصرى الراحل أنور عبد الملك الذى ولد فى القاهرة عام 1924 فكرة الدوائر الحضارية المتفاعلة، مؤكدا وهو المسيحى الديانة واليساري فى أصوله الفكرية أن الإسلام يشكل الهوية الحضارية للأمة، كما ركز على مفهوم "الخصوصية الاجتماعية والحضارية". وفى هذا السياق، قال الدكتور أنور عبد الملك إن العالم العربي ينتمي إلى دائرة حضارية-ثقافية امتدت من المغرب إلى الفلبين واتخذت الإسلام دينا ودولة، ولم يتردد فى دعوة المثقفين العرب لأن يعرضوا عن "دعاة التنكر لواقعهم التاريخي والاجتماعي والثقافي ليتجاوب مع دعوته المخلصة والبريئة من الهوى والمصلحة الخاصة المثقفين الوطنيين الذين يدركون أهمية المخزون الحضارى للأمة فى تحقيق النهضة المنشودة. وفى كتابه "من تحت الأنقاض الإمبراطورية: الثورة على الغرب وإعادة بناء آسيا"كان الكاتب والقاص الهندى بانكاج ميشرا المعني بجدل الأفكار بين الغرب والشرق الأسيوي وانعكاسات العولمة، قد تطرق لاستجابة المثقفين العرب والفرس والهنود والصينيين واليابانيين حيال علو المد الاستعمارى الغربى ودعواتهم فى سياق الفكر المقاوم للهيمنة الأوروبية وشعورهم بالمهانة إزاء الخلل الفادح في توازن القوى عالميا لبناء التضامن الاسلامى والتقارب مع الكتلة الآسيوية. وكان أنور عبد الملك قد رأى أن العالم العربى يشكل الدائرة الثقافية الأوسع فى العالم الإسلامى إلى جانب الدوائر الثقافية الإفريقية والأسيوية"، فيما شدد على إيمانه بدور الإسلام فى نهضة المجتمعات الشرقية. والمتأمل لأعمال بانكاج ميشرا ونتاجه الذهنى يلمس اهتماما بهذا النوع من القضايا وأدوار المثقفين على وجه الخصوص فيما كانت الثورة الشعبية المصرية حاضرة فى كتاباته، حتى إنه زار مصر بعد ثورة يناير وكتب عن ميدان التحرير فى صحيفة "ذي جارديان" البريطانية كرمز لكفاح شعب سعى للانعتاق من حكم لا يختلف فى جوهره عن الحكم الاحتلالي الاستعماري. وهكذا رأى بانكاج ميشرا أن المصريين بعد ثورتهم بدوا كأى شعب تخلص من الاحتلال ويبحث عن حكم ديمقراطي يمثله مع العدالة الاجتماعية والقوة الاقتصادية والتجدد الثقافي, شعب استعاد كرامته ويسعى للنهضة. إنها فكرة الولادة الجديدة والثوار الذين يمتلكون إمكانات جديدة ونقية للتفكير والعمل مستندة بالضرورة لتراث ثقافي ثوري لعل من تجلياته أعمال رائدة للمفكر الراحل أنور عبد الملك الذى تولى الإشراف على مشروع لجامعة الأممالمتحدة فى طوكيو بعنوان "البدائل الاجتماعية-الثقافية للتنمية فى عالم متغير" وهو مشروع اهتم بإسهامات الفكر الإسلامى في هذا المضمار. وألح عبد الملك في طروحاته وكتاباته المتعددة على أهمية الانبعاث الحضاري وهوالذي درس الفلسفة وخبر الفكر الأوروبي والغربى باتجاهاته وتلاوينه وأطيافه، وحصل على الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة السوربون وانضم للمركز القومي للبحث العلمي في باريس. وفى سياق اهتمامه غير العادى بمشروع النهضة الصينى، لاحظ أنور عبدالملك أنالنخب الثقافية الصينية تنأى بنفسها عن المعارك الوهمية حول قضايا لا يعتد بها فىتغيير الواقع بقدر ما تنزع نحو الأفكار المحركة والمغيرة لهذا الواقع، معتبرا أنه"من واجب العرب وصالحهم التعلم من الصين نموذج التفوق في التعلم من الواقعوتغييره". ومن الطريف أن "الهوى الصيني" للدكتور أنور عبد الملك كان يتجلى حتى في مطبخه، حيث الطهي بالبخار والميل للخضروات والأسماك وفواكه البحر فيما رأى في الصين "النموذج للأمة العريقة الموحدة المتصلة على مر العصور" عاقدا مقارنات عميقة بين السياقات الحضارية فى مصر والصين ونظره يرنو دوما لمشروع نهضوى مصرى يضارع النهضة التى تحققها الصين. ولعل المشروع النهضوى الصينى يتوافق مع ماتوقعه المؤرخ العلامة أرنولد توينبى من أن الغرب لن يكون بمقدوره تجاهل أفكار الشرق وسيتعين عليه التسليم بوجود ثقافات وحضارات أخرى تتعامل معه بندية. إن كانت الصين تمارس "عقيدة الصعود السلمي" فإن مصر التى أضحت دولة مدنية ديمقراطية وتستعيد قوتها الناعمة- ليست أبدا طرفا فى نزاع وإنما كما أوضح الرئيس محمد مرسى "تريد أن تكون دائما طرفا فى عملية متكاملة من أجل استقرار المنطقة والعالم وهناك الآن تقدير كبير للشعب المصرى وثورته لدى كل دول العالم". وإذا كان الرئيس محمد مرسى قد أعلن أنه "لا مجال للخوف فى مجال العمل السياسى والدبلوماسى لأن الخارج العربى والإقليمى والدولى أراه الآن داعما للدولة المصرية الجديدة التى ولدت بعد الثورة ولقيادتها الجديدة المنتخبة" فإن الأمر ذاته ينطبقوربما أكثر على مجال العمل الثقافي المصري. ومع انهيار البنية الاستبدادية، يبدو العقل الثقافي المصري مدعوا للتحليق فى آفاق جديدة مناطها تلبية أشواق مصر والأمة للعدالة والحرية والنهضة والإسهام الجاد الذي يليق بقامة هذا الوطن في ثقافة عالم مازال يبحث فى تيه أزماته عن الحق والخير والجمال. وفى ذروة عطائه الفكرى، انتهى المفكر أنور عبدالملك إلى فكرة مركزية هي أن "نهضة العالم العربى- الإسلامى ومصر فى القلب لا يمكن أن تتحقق إلا فى خضم صياغة عالم جديد مغاير للعالم الذى بدأ منذ القرن السادس عشر"، مؤكدا دوما أهمية النضاللإنهاء المظلومية والجور والبغى بكل ألوانه فالغرب حسب مفهوم "فائض القيمة التاريخى" الذى ابتكره أنور عبدالملك "لم يكن ليصير غنيا على هذا النحو الصارخ لولا قرون خمسة من الغزو والاستعمار والنهب". وإذا كان الوقت قد حان لتشرع ثقافة الثورة المصرية فى إنتاج التحولاتالتاريخية الكبرى وبناء النهضة المجتمعية الموعودة وممارسة الإبداع الحضاري النافي لانحطاط استبد طويلا.. فإن التحية واجبة لكل من أسهم فى بناء أفكار هذه الثورة النبيلة ومقاومة الطغيان ومنهم المفكر الراحل أنور عبد الملك الذي توفي في شهر يونيو الماضى وكان يعتز كل الاعتزاز "بالإسلام الحضارى" ويستشهد كثيرا بالآية الكريمة "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون".