تمثل التجربة الفكرية للمفكر الراحل د. أنور عبدالملك حلقة مهمة من حلقات تطور العقل العربي، عبر مسارات فكرية ورؤيوية خاصة ميزت هذه التجربة التي اتسمت بعدة سمات جعلتها مغايرة لغيرها، ووضعتها في مصاف التجارب النهضوية في العصر الحديث. السمة الأولي: التأكيد علي الهوية، فقد عاش «عبدالملك» مدافعا عن الخصوصية المصرية النابعة من عمق الحضارة القديمة، والقادرة علي مواكبة الواقع الحديث، والتي باستطاعتها مواجهة أي رياح تغريبية، ومع ذلك فتلك الخصوصية – من وجهة نظره – قادرة علي احتواء الآخر ومحاورته والاستفادة المشتركة فيما بينهما. وقد تجلي هذا المنحي في كتبه المختلفة ومنها «في المسألة الحضارية» و«الوطنية هي الحل» و«نهضة مصر» فقد كان يري أن التقدم لابد وأن ينبع من منطلقات ذاتية أولا، فقبل أن نري الآخر، علينا أن نري أنفسنا جيدا وأن نتحاور مع تاريخنا، وأن نتجاوب مع أبعادنا الحضارية، بشرط ألا نكون عبدة للتاريخ، بل علينا أن نقرأه جيدا لنري ما تركه الأسلاف من مقومات لنبني عليها. ومن هنا جاء نقده للعولمة وسياسات الانفتاح علي الغرب بلا مبرر حقيقي، حيث رأي أن هذا الخطاب ينطوي علي دعاوي لفرض النفوذ والهيمنة، وهي أمور لن تحقق أي تقدم حضاري بل تجرنا إلي مزيد من التبعية والانسياق وراء المطامع الغربية في ثروتنا وحضارتنا. السمة الثانية في تجربة أنور عبدالملك الفكرية هي تأكيده علي أن النهضة المصرية لن تأتي إلا بالتفاعل مع الثقافات الشرقية المحيطة بها، وهذا ما نراه جليا في كتبه «مفاتيح استراتيجية جديدة للتنمية» و«ريح الشرق» و«تغيير العالم»، وفيها يكرر دعوته للعالم العربي إلي ضرورة زيادة التقارب بينه وبين دول الشرق التي تمثل القوي العظمي الكبري الصاعدة مثل الصين وروسيا وماليزيا وغيرها، ومن وجهة نظره أن الانحياز إلي تلك التجارب النهضوية في شرق آسيا ودول البلقان تمثل حائط صد قوي لنا في العالم العربي ضد شراسة الهيمنة الأمريكية وحليفتها الاستراتيجية إسرائيل والتي تريد أن تجعل من الوطن العربي مستوطنة كبري. ولعل «عبدالملك» في دراساته هذه كان ينطلق من نزعة قومية لم تفارقه حتي آخر مقالاته. السمة الثالثة: أن تحليله الاجتماعي والسياسي للظواهر ينطلق دائما من نظرة فلسفية عميقة ذات إطار جدلي، ولنا أن نشير إلي أنه تتلمذ علي يد الفيلسوف الراحل الكبير عبدالرحمن بدوي – ومن الغريب أن الاثنين تشابها في أمور كثيرة كان آخرها الموت فقد ماتا الاثنان في غربة ووحدة بعيدا عن الوطن وفي نفس المكان العاصمة الفرنسية «باريس» – ولنا أن نشير أيضا إلي أن أول كتاب ظهر عليه اسم «أنور عبدالملك» كان ترجمته لكتاب «مدخل إلي الفلسفة» والذي صدرت طبعته الأولي عام 1957، بعد ذلك توطدت علاقته بعدد من فلاسفة الغرب أمثال جان بول سارتر وجاك بيرك. الديمقراطية أولاً السمة الرابعة في كتابات «عبدالملك»: انحيازه للبعد الوطني وللقيم الديمقراطية في المجتمع، فهو كاتب تقدمي بامتياز، ومن يقرأ كتابه «الشارع المصري والفكر» والذي أراه واحدا من أهم ما كتب في علم الاجتماع المصري المعاصر، بما فيه من تحليل للشخصية المصرية، وقراءتها في ظل معطيات العصر الحديث، وفيه أيضا نقد حاد لتلك الشخصية التي تقوم بأعظم الثورات لكنها لا تكملها، وأظن أن هذا الكتاب – الذي يجب أن تعاد قراءته مرة أخري – قدم فيه «عبدالملك» صورة تقريبية لما نعيشه الآن من صراعات بعد ثورة 25 يناير – وقد كتب هذا الكتاب منذ أكثر من ثلاثين عاما. وهذا يأخذ إلي السمة الخامسة في تجربة «أنور عبدالملك» الفكرية وهي: نظرية الاستشرافية، فهو فاتح لسكك فكرية – إن صح التعبير – علي سبيل المثال هو أول عربي يتحدث عن فكرة الاستشراق من خلال دراسة نشرها في الخمسينيات باللغة الإنجليزية تحت عنوان «أزمة الاستشراق» وقد استفاد من هذه الدراسة – بعد ذلك بسنوات – إدوارد سعيد في كتابه التأسيسي «الاستشراق» – وقد اعترف بذلك في متن الكتاب الذي حقق لسعيد شهرة واسعة في العالم، إلا أننا يمكن أن نقول إن «عبدالملك» هو من وضع البذرة – في تلك الأرض – والذي سقاها ورعاها هو «إدوارد سعيد». منابع متعددة أما السمة السادسة: فهي ثقافته الغزيرة المتعددة المنابع بالإضافة إلي أنه لم يدخل الثقافة من باب المعرفة فقط بل من باب التذوق، ومن يرجع إلي مقالاته القديمة في جريدة المساء والجمهورية والشهر والتي جمع بعضها في كتابه «في الثقافة الوطنية» سيجد ناقدا متذوقا وأديبا متمرسا وعاشقا للفن حتي النخاع. وقد انطلقت ثقافة «عبدالملك» من منطقة تنويرية تري أن الحل الجذري لكل الأزمات التي نحن فيها هي ضرورة أن تكون هناك حالة من التوازن بين خطاب النخبة المثقفة والجماهير، وهذا التوازن لن يتأتي إلا بنزول المثقف إلي الشارع. وقد دعا «عبدالملك» في كتابه «المشروع الحضاري» إلي ضرورة العودة إلي ما كتبه د. طه حسين في كتابه المهم «مستقبل الثقافة في مصر» والذي يراه أساسا يمكن البناء عليه في اللحظة الراهنة.