الذي التقي بالدكتور أنور عبدالملك، سيشعر من الوهلة الأولي أنه لم يكن مفكرا سياسيا فقط،أو فيلسوفا ومفكرا اجتماعيا كبيرا فحسب، وله تنظيرات جوهرية تسللت إلي أروقة ومراكز بحث عالمية،لكنه سيكتشف أن عبدالملك يهتم بالفن والموسيقي والسينما والشعر والفن التشكيلي، بقدر مايبحث في التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع والسياسة،إنه المفكر والعالم الشمولي بمعني الكلمة والذي يبحث في مسيرته سيعرف أنه في الوقت الذي كان يناضل مع رفاقه في الحركة اليسارية المصرية، كان في الوقت ذاته يكتب في مجلات الإذاعة والرسالة والشهر،وجريدة المساء والجمهورية في، زمن الخمسينيات مقالات وبحوث في الفن والأدب والموسيقي والسينما، وله كتابات عن بريخت ولوركا وتولستوي وغيرهم، وبالمناسبة له دراسة بديعة عن فيلم) حسن ونعيمة) الذي كتبه الراحل عبد الرحمن الخميسي، وقامت ببطولته سعاد حسني،في أول ظهور لها، ونشرت هذه الدراسة في الطبعة الأولي للكتاب الذي نشر السيناريو، وللأسف لم ينشر هذه الدراسة في الطبعة التي نشرت مؤخرا، والجدير بالذكر أن أنور عبدالملك عندما قامت السلطات المصرية بالحملة الشرسة ولاحقت كافة أبناء اليسار المصري،وقبل أن يرتب عبدالملك خروجه من مصر ذاهبا إلي باريس اختفي عند الفنانة سعاد حسني لمدة أيام بمعرفة الشاعر والفنان عبدالرحمن الخميسي، وفضلا عن المقالات التي كان يكتبها عبد الملك بغزارة للصحف والمجلات، فالذي يعود لأرشيف إذاعة البرنامج (الثاني) سيجد أن الراحل الكبير كتب عدة روايات لم يتم نشرها فيما، للظروف التي أحاطت بعبدالملك فيما بعد وأبعدته عن مصر، فلم يلتفت إلي جمع أي من كتاباته في الزمن البعيد ومن المعروف أن عبدالملك كان قد تربي في بيت من بيوتات البورجوازية المتوسطة، ولكنه التحق بالحركة الشيوعية مبكرا مثلما التحق بها أناس من هذه الطبقة والطبقة الأعلي مثل محمدسيد أحمد وشريف حتاتة وأحمد نبيل الهلالي وغيرهم، وكان لشهدي عطية الشافعي تأثير بالغ في دفع عبدالملك بقوة نحو اليسار، وكان الأخير يكن لشهدي تقديرا يصل إلي حد التقديس، فالذي زار أنور عبد الملك في منزله بمصر الجديدة، سيلاحظ أنه كان يعلق صورة والدته وبجوارها صورة شهدي عطية، وبضعة لوحات لبيكاسو وسلفادور دالي فقط، ذلك لأن شهدي كان الفتي الأول الذي غرس في روح أنور التمرد والاحتجاج، وبعد ذلك شاركه في تنظيم (أسكرا) ثم توحدت أسكرا مع الحركةالديمقراطية الوطنية للتحرر الوطني (حدتو) وبعد ذلك قاد تكتلا عرف في تاريخ الحركة الشيوعية باسم تكتل (سيف سليمان) وسيف هو الاسم الحركي لانور عبدالملك وسليمان كان الاسم الحركي لشهدي عطية، وكان ذلك عام 1949، وقبلها بعامين كان قد دخل سجن الأجانب للمرة الأولي في قضية (الشيوعية الكبري) وكانت هذه القضية ضمت أناسا ليس لهم أدني علاقة بالحركة الشيوعية مثل محمد زكي عبد القادر ومحمدمندور وسلامة موسي، وكانت هذه (الحبسة) تضم أيضا الكاتب ادوارد الخراط، وكان علي تماس فكري بمجموعة التروتسك في ذلك الوقت، أما المرة الثانية التي اعتقل فيها عبدالملك فكانت عام 1954، مع كافة التنظيمات الشيوعية الأخري، وبعد خروجه شارك في الحركة الثقافية والأدبية والفنية بشكل كبير، وأظن أن كتاباته في تلك الفترة لو جمعت ستملأمجلدات،لغزارتها،فكان يكتب في عدد من المجلات والصحف مع علي الراعي وسعدكامل ومحمد مندور ومحمود العالم وابوسيف يوسف وغيرهم، وكان أول إصدارات أنور عبدالملك في الترجمة، وكثيرون من الذين يرصدون سيرة عبدالملك يعدون هذا الكتاب ضمن مؤلفاته، والصحيح أنه كتاب مترجم، من تأليف جون لويس، تحت عنوان ( مدخل إلي الفلسفة)، وصدرت طبعته الأولي عام 1957،ورغم أن الكتاب ينطوي علي ماحمله عنوانه، إلا أن عبد الملك ترجمه لأغراض لها علاقة بالواقع المصري، ويكتب في المقدمة : (هذا الكتاب الذي نقدمه اليوم إلي قراء العربية في كل مكان انما هو دفاع عن الفلسفة، وليس مجرد "مدخل الي الفلسفة") ويستطرد (والحق أننا مازلنا تحت وطأة الاستعمار الثقافي والرجعية الفكرية، رغم وثبتنا الوطنية التحررية الكبري التي بدأت تفتح أمام العقلية المصرية والوجدان المصري آفاق التجديد والتطوروالتقدم، ذلك أن الفلسفة عندنا موضع ريبة، وكأن الفيلسوف زنديق، وكأن التجديد بدعة، وكأن النقد تشكيك، وكأن الفكر العلمي دخيل علينا )، ويظل عبد الملك يكتب علي هذه الوتيرة في مقدمته، وكافة كتاباته الأخري الأدبية والثقافية والفكرية، حتي أن لاحقته لعنة المطاردة فهاجر إلي باريس، وأخذت حياته مسارات أخري، رغم حماسه الملحوظ للسلطة الناصرية،وعند ذهابه لباريس تعرف علي عدد من المفكرين والكتاب الفرنسيين، مثل جان بول سارتر وجاك بيرك الذي اهتم به وألحقه فيما بعد بالمركز القومي للبحث العلمي،وكان عبد الملك قد كتب بحثا هاما باللغة الإنجليزية تحت عنوان (أزمة الاستشراق) وكانت هذه الدراسة هي التي ألهمت المفكر الكبير ( الفلسطيني الأصل) إدوارد سعيد في كتابه-نظريته الاستشراق،وقد أشاد ادوارد سعيد كثيرا باكتشافات عبدالملك، وارتكزبشكل أساسي علي مقولاته،يقول ادوارد سعيد في كتابه :(يري عبد الملك أن الاستشراق ذو تاريخ قاده،في نظر "الشرقي"في الجزء الأخير من القرن العشرين،إلي الطريق المسدود الذي وصف أعلاه) وكان سعيد قد اقتبس فقرة مطولة من دراسة عبدالملك،ويذكر سعيد أن عبد الملك كان له الفضل في اكتشاف جذور وماهية العلاقة التي تربط نظرة الغرب للشرق فيكتب :(وهل بإمكان أية علاقة أخري غير علاقة السيد العبد السياسية أن تنتج الشرق المشرقن الذي جسد ملامحه أنور عبدالملك تجسيدا كاملا) ويظل ادوارد سعيد يستند إلي مقولات وأفكار عبدالملك طوال كتابه ويستشهد به، ورغم ذلك فالذي كان يعرف عبدالملك سيلاحظ أن به غصة من سعيد،لشعوره بأن الأخير قد استخدم مشروعه وخطفه ونسبه لنفسه، رغم أن سعيدا كان يكن احتراما ومودة وتقديرا عاليا، فضلا عن شعوره بأستاذيته له،والدليل هو الاستشهادات التي كانت تتواتر في كتابات سعيد من عبدالملك ورغم أن نظرية الاستشراق قد نسبت إلي ادوارد سعيد، إلا أن كتابات عبدالملك الأخري قد كتبت له شهرة واسعة في الغرب، خاصة كتابه (الجدلية الاجتماعية) والذي اكتشف فيه علاقة الزمن بالتطور الجتماعي،وبالطبع فعلاقة الزمن بالتطور الاجتماعي عند عبدالملك يحتاج إلي بحوث ودراسات، ومن كتاباته الهامة أيضا كتابه (نهضة مصر ) وقد ترجم إلي العربية منذ وقت بعيد، وإن كان عبدالملك لم يكن سعيدا بمستوي الترجمات التي تصدر بها كتبه بالعربية، ولا يعود ذلك إلي أن الترجمات كانت رديئة، ولكن يعود إلي أن عبدالملك كان قلقا دوما لا تعجبه أشياء كثيرة، وازدادت هذه السمات عنده في سنواته الأخيرة،ولكنه في بعض الأوقات كان يعقد صالونا ثقافيا في منزله، وكان يحضر لفيف من الكتاب والمثقفين أبرزهم الأصدقاء نبيل عبدالفتاح وأحمدعبدالله رزة وأحمد صدقي الدجاني ورؤوف عباس وعادل حسين ووليم سليمان قلادة وليلي عنان وآخرون، وكانت تدور في هذا الصالون مناقشات حامية الوطيس،لا تخلو من حدة كانت تبدو أحيانا من هنا وهناك، وبالطبع كانت تطل علينا نظريات واتجاهات وأفكار، وكان أحمد عبدالله كعادته مفجرا لحفنة أفكار مثيرة،رحم الله من رحل، وأطال في عمر الأحياء وإذا كان الإلمام بكتابات وأفكار عبدالملك لا تستطيع أن تشير إليه سطور قليلة من هذا النوع، إلا أنني أود الإشارة إلي كتابه الهام (المجتمع المصري والجيش ) وهذا هو العنوان المعتمد من المؤلف كما كان ينوه في كتاباته،وكان يستنكر العنوان الآخر الذي يشي بأن مصر مجتمع يبنيه العسكريون،وكان هذا الكتاب قد لفت نظر دوائر كثيرة جدا في العالم،واعتبرته هذه الدوائر مرجعا أساسيا في فهم ثورات العالم الثالث،وكان دور الجيش في حركات التحرر هي الشغل الشاغل لحركة تفكير عبدالملك، وكان قد أشرف علي سلسلة أبحاث تدور حول هذا الموضوع، وشارك في كتابة هذه الأبحاث مجموعة من المفكرين المرموقين من فيتنام وباكستان واندونسيا واليابان والصين والكونغو، وكتب عبدالملك بحثه الهام (الجيش في الأمة إسهام في نظرية سوسيولوجية السلطة ) وألحقه بالحث التطبيقي (دور الجيش في الثورة الوطنية المصرية 1952 7691) وأظن أن أحمد حمروش اعتمد علي هذه الدراسة اعتمادا كبيرا في كتابه (قصة ثورة 23 يوليو كاملة )دون إسناد الفضل لصاحبه،، ودون الخوض في التفاصيل فنحن نحتاج لقراءة كتابات عبدالملك حول دور الجيش في السياسة، خاصة في هذه اللحظة حتي ندرك جيدا اللحظة الراهنة، ومن الممكن أن نختلف مع عبدالملك، ولكن كتاباته سوف تثير عددا من الاسئلة والإجابات الغائبة عن مجال التفكير في هذه اللحظة الساخنة جدا هذا فضلا عن كتاباته الأخري حول الإسلام السياسي،والذي كان يراه حلا للمأزق التاريخي الذي سقطت فيه شعوب الشرق، الإسلام السياسي بمعناه السلمي والعلمي والثقافي والحضاري،وقد أوضح ذلك في كتابه (ريح الشرق) الذي قدم له فتحي رضوان مهما حاولت الإطالة فلن تجدي هذه السطور في اكتشاف المعني الذي كان ينطوي عليه عبدالملك الذي رحل وحيدا في بيته الصغير في باريس، وبعيدا عن وطنه، وبعيدا عن ابنته الوحيدة التي كانت تقطن في سويسرا (موطن والدتها)وكان يحاول إقناعها بالحياة جواره في مصر ولكنها كانت ترفض بقوة وحسم كبيرين، مما ترك في نفسه حسرة لا يعلم مداها سوي أصدقائه المقربين، خاصة أنه كان يشعر بوحدة بالغة وعميقة، وغربة موحشة، ربما لأنه أيضا فقد كل أصدقاء العمر القدامي، وكان لحقه أذي من بعض ممن حوله، لذلك كان دائم الذهاب والإياب من القاهرة لباريس والعكس، حتي لقي ربه، ولم يعرف التعصب الديني أو الطائفي أبد، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.