يقف على أطراف أصابعه الحافية حتى يطول شباك السيارة المغلق عادة فى هذا الحر القائظ الذى لم يمنعه من الجرى بين السيارات فى أحد أشهَر ميادين العاصمة.. لا أعرف كيف تحتمل قدماه حرارة الأسفلت القاسية، يمارس طقس الاستجداء اليومى المقنّع. بنظرة من عينين لم تزل تحتضر فيهما بقايا براءة تشعر أنه ابنك؛ لا تستطيع مقاومة حركة يده تجاه فمه تخبرك أنه جائع، فتقاوم كل قناعاتك الشخصية وتخرج النقود من يدك رغماً عنك غير مبالٍ بأنك لتوّك قد صنعت متسولاً لن يدرك قيمة العمل يوماً.. حتى تلك (المريلة البيج الكئيبة) لم تعصم زهور الوطن من التسول والاستجداء عندما يجدون أحد المارة ذا مظهر يشى بمستوى اجتماعى أكثر رقياً أثناء خروجهم من المدارس الحكومية الساعة 11 قبل الظهر.. وقد فقد العِلم هيبته مع وزارة ارتكبت على مر عقود جرائم حرب فى حق شعب علّم العالم فأقامت له محارق أفظع من تلك التى أقامها هتلر لليهود، بإعدام جماعى لبراعم المستقبل.. وسنظل نجنى مر ثماره لسنوات طويلة. بصبر تراكم الخبرات المتهورة لم أحاول اقتحام عالمه الصغير عنوة.. واكتفيت بطرَقات خفيفة على أبوابه الموصدة بقطعة حلوى أو شيكولاتة ادخرها دائماً لهذه المواقف، ولكن ليس أبداً بنقود.. حتى جاءت الفرصة التى كنت أنتظرها، فاليوم هو جالس على الأرض محاولاً إخفاء دموع شعرت أنها صادقة، عازفاً حتى عن ممارسة طقسه اليومى، غير عابئ بنظرات شفقة عابرة تنبئ بزبون سهل المنال. توقفت أمامه وبصعوبة استطعت اكتساب قليل من ثقة مشوبة بحذر علمته إياه ليالٍ لا ترحم فى مدينة بلا قلب.. لتبدأ الأبواب الموصدة تفتح شيئاً فشيئاً... اسمه مروان وقد قبضوا على أمه منذ عدة أيام بتهمة التسول.. إذن له أم لا تستحق هذا الشرف.. أما أبوه فيقضى عقوبة السجن بسبب ذلك الابتكار الاقتصادى العجيب الذى عاد بنا لزمن التجار اليهود فى خالدة شكسبير (تاجر البندقية)، تروج له وسائل الإعلام بكل إمكانياتها ببريق أجهزة لكل شئ، تمنح أى معدم -يحمل بطاقة هوية ورغبة اقتناء يقودها احتياج وجهل وحرمان- تذكرة تحجز له مكاناً كنزيل (فول بورد) فى فندق طرة. ومع تدفق حكايات أذهلتنى تستطيع أن تقرأ ما خلفها طُفت معه عالماً قاتماً؛ لأكتشف حقيقة أبشع من أى خيال.. اقتصاد خفى له قوانينه الخاصة، سوق شديدة السواد تكتسب فيها كل الرذائل شرعية الوجود.. قوادون لديهم كل البضائع؛ فالرق لم يعد أبيضَ بل أصبحت له ألوان كثيرة لتناسب كل الطلبات حتى المريضة منها لزبون شاذ بدءاً من طفولة ذبيحة حتى تلك المسوخ البشرية لا تعرف لها جنساً.. والثمن زهيد أكثر مما تتخيل فالبضاعة متوافرة والإنتاج الردىء لا أكثر منه فى المصنع الوحيد غزير الإنتاج فى بلدنا.. إنه مصنع البشر.. ولا عزاء ل«حسنين ومحمدين وحاجة ببلاش كده». ولكن.. ولأن المشاعر الصادقة تصل إلى القلب مخترقة كل دروع الخوف والريبة؛ فقد امتدت يده الصغيرة تنادينى أن أقتلعه من ذلك العالم الملعون. .. همس لى، وهو يخطو داخل سيارتى بتردد: - أنا خايف... ليبدد مخاوفه حضن كبير.. منحته له غير عابئة بأثماله البالية. وأنا أشعر أنى من يدين له بالامتنان وليس العكس. أغمض عينه على المقعد وكأنه يحلم.. لنذهب معاً لغد انتظره كثيراً ب«مدرسة مصر التحدى للتعليم المهنى الأساسى» (نظام تعليم مهنى بديل لأطفال الشارع والمتسربين من التعليم وعمالة الأطفال)، وهو حلم تحول إلى حقيقة أخيراً يشاركنى فيه مجموعة رائعة من العاشقين فى صمت. وفى الطريق للضفة الأخرى من نهر الحياة، بدأ يبوح لى بأحلامه وهو ينظر إلى قدميه الحافيتين.. برجاء من عاش يحلم طويلاً بشىء صعب المنال فاجأنى: - إنتى ممكن تجيبيلى أى حاجة؟ أجبته: - لو فى استطاعتى. - يعنى ممكن تجيبيلى كوتشى بينوّر؟ ذلك كان حلمه الصغير. ولا تزال للقصة بقية.. فلنصنعها معاً..