سألنى عدد من الأصدقاء من المثقفين والمختصين والإعلاميين، عمّا أتوقعه من نتائج زيارة الرئيس السيسى إلى إثيوبيا ولقائه المنتظر مع رئيس الوزراء الإثيوبى على هامش اجتماع الاتحاد الأفريقى الرابع والعشرين فى أديس أبابا. ومن طبيعة تخصصى المهنى، كان واضحاً أنهم كانوا يعنون بسؤالهم عمّا أتوقعه من نتائج لهذه الزيارة، بخصوص أزمة سد النهضة. والحقيقة الإجابة عن السؤال صعبة، والصعوبة ليست نتيجة عدم وضوح الموقف الإثيوبى، فهو واضح كالشمس، ولكن عدم الوضوح يتعلق بالموقف المصرى المعلن وبما تريده مصر من إثيوبيا. فالتصريحات السياسية المصرية المعلنة تتمثل فى أن مصر تدعم حق إثيوبيا فى استخدام مياه النيل فى التنمية، ولكن مصر تتوقع أن تتفهم إثيوبيا أيضاً أنّ مياه النيل هى مصدر الحياة الوحيد لمصر وشعبها. وهذا التصريح يدخل ضمن المبادئ العامة للعلاقات المائية بين الدولتين، ولا يمثل مطلباً مصرياً محدداً بأزمة سد النهضة. أمّا إثيوبيا فهى أكثر تحديداً وتفصيلاً، فتقول رسمياً إنّ سد النهضة لن يُسبب أى أضرار «جسيمة» لمصر، وإن إثيوبيا لا تقر بحصة مصر المائية، وإنّها تقر فقط مبدأ الاستخدام العادل والمنصف لمياه النيل. والبيان المشترك للدولتين الذى صدر على هامش الاجتماع السابق للاتحاد الأفريقى فى مالابو بغينيا الاستوائية، ينص على مبدأ عدم الإضرار، واحترام قواعد ومبادئ القانون الدولى، والعودة إلى المباحثات الفنية من خلال اللجنة الثلاثية التى تضم الدولتين، بالإضافة إلى السودان. وبالفعل عادت المباحثات الفنية من خلال اللجنة الثلاثية، وتم الاتفاق على خارطة طريق لفترة ستة أشهر تنتهى بنهاية فبراير 2015، وتشمل الاستعانة بمكتب استشارى دولى لدراسة الآثار المائية والكهرومائية والبيئية والاقتصادية والاجتماعية لسد النهضة على دولتى المصب، وأن يتم التوافق حول نتائج هذه الدراسات. ولكن حتى الآن، وبعد مرور خمسة أشهر كاملة، لم يتم حتى اختيار المكتب الاستشارى لإعداد هذه الدراسات، نتيجة مماطلات إثيوبية ودعم سودانى، وإثيوبيا مستمرة فى بناء السد، وأنهت 40% من إنشاءاته. وإثيوبيا من خلال اللجنة الثلاثية الفنية لا تقبل إيقاف إنشاءات السد حتى الانتهاء من دراسات آثاره وتداعياته السلبية على مصر، ولا تقبل مناقشة حول تقليل سعة السد. ومع توقف المباحثات الفنية صعّدت مصر نسبياً من تصريحاتها الرسمية، وظهر ذلك أثناء استقبال سيادة الرئيس للوفد الشعبى الإثيوبى خلال زيارته إلى القاهرة، وكان برئاسة السيد رئيس البرلمان الإثيوبى، حيث صرّح سيادة الرئيس بأن النوايا الطيبة والتصريحات الودية بأن إثيوبيا لن تضر بأمن مصر المائى، يجب أن تُترجم إلى اتفاقية قانونية يُقرها البرلمان الإثيوبى، بل عرض سيادة الرئيس أن يزور بنفسه البرلمان للتباحث حول هذا المطلب. وقد كرر سيادته الطلب نفسه، لنيافة بطريرك إثيوبيا أثناء زيارته إلى مصر على ضوء تصريحات نيافته بأن سد النهضة لن يضر بالأشقاء المصريين. ويجب ألا نُغفل زيارة الرئيس إلى كل من إيطاليا والصين، وكل منهما لها علاقات وطيدة وتاريخية مع إثيوبيا، لكن لا نعرف إن تمت مناقشة سد النهضة أثناء هذه الزيارات أم لا، وهل هناك نتائج إيجابية أم لا؟ وهناك أيضاً زيارة السيد وزير الخارجية إلى كينيا، التى صرح أثناءها عدة تصريحات قوية تدافع عن أمن مصر المائى وأهمية عدم المساس به. والدراسات المصرية لسد النهضة متعدّدة وتشمل رسائل ماجستير ودكتوراه وتقارير خبراء دوليين ومحليين، وكلها تؤكد الآثار السلبية الوخيمة للسد على مصر، وأنّ السد مبالغ فى سعته التخزينية، بينما كفاءته الكهربية لا تتعدى 30%، وأنه من الأفضل لكل من مصر والسودان وإثيوبيا أن يتم تقليل سعة السد. وهناك دراسة نرويجية فى يوليو 2011، أعدتها مجموعة مكاتب استشارية دولية تعمل لحساب الحكومة الإثيوبية وبتمويل من النرويج، انتهت إلى أن السد مبالغ فى حجمه ومتدنٍ فى كفاءته لتوليد الكهرباء، وأنّه من الأفضل تقليل سعته إلى النصف، مما يعظم من جدواه الاقتصادية، ويقلّل من أضراره على دولتى المصب. وأشارت الدراسة النرويجية إلى أن تقليل سد النهضة إلى النصف سوف يُعظم إنتاج الكهرباء من السدود الثلاثة الأخرى المخطط بناؤها على النيل الأزرق. وهناك شهادة الخبير الاقتصادى الاستراتيجى الأمريكى أمام إحدى اللجان الفرعية للجنة الشئون الخارجية بالكونجرس الأمريكى فى نوفمبر الماضى، التى أكد فيها الحقائق الواردة نفسها فى الدراسات المصرية والنرويجية، بل زاد على ذلك بأن السد ستكون له آثار مناخية سلبية على أمطار الهضبة الإثيوبية، وكذلك على الأمطار فى كينيا وتنزانيا، وأن إثيوبيا سوف تستخدم مياه سد النهضة فى الزراعة. وأوضح الخبير الأمريكى أن إطالة سنوات التخزين أمام سد النهضة لتقليل الآثار السلبية على مصر، تتطلب أن تكون على فترات طويلة جداً لن تقبلها إثيوبيا، لأنها ستُفقد السد معناه، بل وجدواه الاقتصادية. هذا ملخص الدراسات والمباحثات حول سد النهضة، فماذا يطلب إذن الرئيس المصرى من إثيوبيا؟ الحقيقة أنّ الموقف المصرى من هذه الأزمة ليس سهلاً، خاصة بعد الانتهاء من حوالى 40% من السد، وللظروف الصعبة التى مرت، وما زالت تمر بها الدولة، وفى ظل مؤامرات الخارج التى تُحاك للمنطقة، وفى ظل الدعم الغربى المستمر لإثيوبيا. مصر فى رأيى أمامها خياران لطرحهما على إثيوبيا، الأول هو موافقة مصر على مطالب إثيوبيا بإتمام دراسات السد على مدى عام أو عامين، لكن بشرط وقف إنشاءات السد حتى يتم الانتهاء من هذه الدراسات والتوافق حول نتائجها وحول سبل تقليل الآثار السلبية للسد على مصر. والخيار الثانى هو التفاوض السياسى حول تقليل سعة السد وعدم استخدامه فى الزراعة، وقد يكون البديل النرويجى للسد (50% من الحجم الأصلى) هو البديل المعقول للبلدين. ولكن هل ستوافق إثيوبيا وحلفاؤها على أىٍّ من هذين الخيارين، وهل هناك خيار آخر لمصر، وكيف نحل أزمة السدود الإثيوبية الثلاثة الأخرى المخطط إقامتها على النيل الأزرق. أعتقد أنّ إثيوبيا لن توافق على أىٍّ من الطرحين المصريين، لأن الهدف الأساسى من السد ليس هدفاً تنموياً أو اقتصادياً، بل هو سياسى فى الدرجة الأولى، ويتمثّل فى التحكم فى المياه والطاقة الذاهبة إلى دولتى المصب، وتقزيم الدور المصرى فى شرق أفريقيا. وسوف تصر إثيوبيا على السعة الحالية للسد، وستصر على أن الآثار السلبية على مصر لن تكون كبيرة ويمكن حلها بزيادة سنوات التخزين، وأن تتعهّد إثيوبيا بصرف كميات إضافية من المياه لمصر والسودان فى سنوات الجفاف. وقد تنتهى الزيارة ببيان بهذه البنود الإثيوبية فى إطار يظهر أنّ إثيوبيا لن تضر بمصر، وأنه لا مخاوف من سد النهضة، ونستمر فى الدوران فى هذه الحلقة المفرغة، فهل لدينا بدائل حقيقية للتحرك المضاد؟