من قلب المحنة والمعاناة يولد الحب، ليكون كواحة خضراء لرجل مناضل تائه في الصحراء، يجد فيها ضالته المنشودة أو يكون مجرد شعاع عابر أو نسمة هواء ضلت طريقها إلى قلوبهم. "بدونك أشعر أنني أعمى حقًّا، أمّا وأنا معكْ، فإني أتوصّلُ إلى الشعور بالأشياء التي تحيطُ بي"، فبوجودها وجد النور والحياة والأمل، لتكون هي عيناه خلف نظارته السوداء القاتمة التي فصلته عن الحياة، وهي التي أعادته لها بلحظات حبهم العظيم النادر، ليرى بقلبه ما عجزت عيناه عن فعله. قصة حب ملهمة، جمعت بين عميد الأدب العربي طه حسين، وزوجته الفرنسية سوزان بريسو، التي عُرفت بعد ذلك ب"سوزان طه حسين"، كانت طوال 56 عامًا من الزواج، هي الأم والحبيبة والزوجة والوطن، وكونت خلالهم جزءًا كبيرًا من وجدان العميد وإنسانيته، واستطاعت في كتابها "معك" الصادر عام 1975 بالفرنسية، أن تخط أهم الملامح الإنسانية في علاقتها بزوجها المصري، بروح ثائرة متدفقة. بقيت سوزان، وحيدة وشاحبة بعد أن رحل "العميد" عام 1973 وجف نبع حبه وكلماته، ورفضت أن تغادر مصر، بل ظلت في بيتهما باقية على ذكريات جمعت بينهما يومًا ما في كل ركن من أركان المنزل، "ذراعي لن تمسك بذراعك أبدًا، ويداي تبدوان لي بلا فائدة بشكل محزن، فأغرق في اليأس، أريد عبر عيني المخضبتين بالدموع، حيث يقاس مدى الحب، وأمام الهاوية المظلمة، حيث يتأرجح كل شيء، أريد أن أرى تحت جفنيك اللذين بقيا محلقين، ابتسامتك المتحفظة، ابتسامتك المبهمة، الباسلة، أريد أن أرى من جديد ابتسامتك الرائعة". تعرف طه حسين على سوزان، الطالبة المنحدرة من عائلة كاثوليكية للمرة الأولى في فرنسا، كانت تقرأ له، ومع مرور الأيام اعتادت أن تزوره لتقرأ له بعضًا من الأدب الفرنسي، فقال عنها: "كانت صديقتي، وأستاذًا لي، منها تعلمت الفرنسية، وفقهت ما أستطيع أن أفقهه من أدبها، وعليها تعلمت اللاتينية، واستطعت أن أجوز فيها امتحان الليسانس، ومعها درست اليونانية، واستطعنا أن نقرأ معًا بعض آثار أفلاطون"، فعشق صوتها وتخلل وجدانه وجذبه لها طريقة إلقائها فتعلق قلبه بها، ويقول لها في رسالة "اعذري فرنسيتي، اعذري أفكاري، فأنا لا أفكر وإنما أحبك". لعل ما كان بينهما يفوق الحب، فتقول سوزان في كتابها، "أول مرة التقينا فيها كانت في 12 مايو 1915، في مونبيليه، لم يكن ثمة شيئًا في ذلك اليوم ينبئني بأن مصيري كان يتقرر، ولم يكن بوسع أمي التي كانت بصحبتي، أن تتصور أمرًا مماثلًا، كنت على شيء من الحيرة، إذ لم يسبق لي في حياتي أن كلمت أعمى، وذات يوم، يقول لي "اغفري لي، لا بد من أن أقول لك ذلك، فأنا أحبك". صرخت وقد أذهلتني المفاجأة، رددت بفظاظة :"ولكني لا أحبك"، ويمضي زمن ثم يأتي يوم آخر، أقول فيه لأهلي إنني أريد الزواج من هذا الشاب، وكان ما كنت أنتظره تمامًا من رد فعل، "كيف؟ من أجنبي؟ وأعمى؟ وفوق ذلك كله مسلم؟ لا شك أنك جننت تمامًا"، ربما كان الأمر جنونًا، نعم لقد ملئت حياتي إلى أقصى حد، وكان قد قال لي :"لعل ما بيننا يفوق الحب". وبالفعل في عام 1917، تزوج العميد برفيقة دربه في فرنسا، فارتدت الفستان الأبيض في عربة قادتها الخيول، لتبدأ بها حياة أبدية جمعت بينهما في فردوسيهما الخاص، الذي زاد بمولد ابنتهما الحبيبة أمينة وابنهما مؤنس، فكان في سفره يقول لها "قبلي الطفلين، وحدثيهما عني فذلك يسعدني، وعندما تروق لك "البيرينيه"، أو يروق لك أي مشهد آخر، فكري في بهدوء وجذل، فكرى أنني إلى جانبك، وأني أرى بعينيك، وأني أعاني كل ما تعانيه". وفي عام 1973، كانت اللحظات الأخيرة والصعبة في حياة "العميد"، خاصة بعد تفرق أبنائه بين نيويورك وباريس، بقيت سوزان إلى جانبه لتشهد وحدها رحيله بعد نصف قرن من الالتحام النفسي والوجداني. "أمن الممكن يا طه أني كنت محبوبة على هذا النحو، وأني كنت المقصودة بهذا السيل من الحنان والعاطفة؟ هذا القدر من الحب الذي كان علي أن أحمله وحدي، عبئًا رائعًا، ما أكثر ما خفت ألا أتمكن من القيام بمتطلباته بجدارة، من أين جئت أنت إذن، أنت الأقرب إلى نفسي، من أين جئت؟ وهل سيسمح لي الله أن ألقاك حيث أنت؟ للمرة الأولى والوحيدة، لم نكن معًا في ذكرى زواجنا". لم يستطع حتى الموت أن يفرق بين طه وسوزان، ولم يستطع ظلام عين طه أن يفعل، ولا عروبته وإسلامه، بالرغم من فرنسية سوزان ومسيحيتها، فحين تلتقي الأرواح لا يستطيع أحد أن يفرقها.