داخل المصنع يتوقف أمام ماكينته، هنا سنوات عمره التى طُويت بين التروس والآلات، ما الذى كسبه بعد كل ما مضى؟ حفنة جنيهات يقبض عليها بكفه كل شهر، وكأنه يقبض على الجمر، فلا تكاد تسد رمق أبنائه؟ صحته التى أفناها وقوفه بالساعات على قدميه، دون أن يجد من يهون عليه تعبه، ويحمل عنه ما تئن أكتافه منه؟ احتفالات صاخبة تقام باسمه كل عام فى الأول من مايو فلا يدرك منها شيئاً، ليس فقط لأنه لن يدعى لها، لا يختلف حال المصانع عن أحوال العاملين فيها، هنا تعيش صناعة الغزل والنسيج على ذكريات الماضى الجميل، وقت أن كانت تغزو منتجاتها دول العالم، وأرباحها تسهم فى شراء الأسلحة وقت الحرب، وماكيناتها تفتح بيوت عشرات الآلاف من العمال، بالطبع قبل أن يبدأ نظام الخصخصة، وتصبح صناعة الغزل «أثراً بعد عين»، مصانع معطلة، وأطلالاً تبكى من بناها. «الوطن» زارت العمال فى منازلهم فى ذكرى الاحتفال بعيدهم، استمعت إلى حكاياتهم، طافت معهم مصانعهم لتتعرف على الأوضاع التى يعملون فيها، ولتنتقل معاناتهم فى يوم الاحتفال بعيدهم.قصة كفاح تفتخر وهى تروى كل حرف فيها، الحكاية بدأت عندما وجدت نفسها، وهى الأكبر بين إخوتها، مسئولة عن مساعدة والدها الموظف فى مجلس المدينة، كان عمرها لا يتعدى الثالثة عشرة، والوظائف لمن هن فى عمرها ليست بالهينة، والبحث عن عمل أفضى إلى مصنع للسجاد كان قريباً من منزلها، لا علاقة بين راتبها وساعات العمل؛ فالراتب يتعلق بمزاج صاحب العمل، لكن الطفلة لم تشتكِ من طول ساعات عملها أو مشقته، وإنما الأمر كله متعلق براتبها الذى تركت مدرستها ومستقبلها من أجله، بل من أجل أسرتها؛ لهذا كان لا بد أن تبحث عن عمل براتب أعلى، أحد أقاربها نصحها بالذهاب إلى شركة مصر للغزل والنسيج، وبالفعل فعلت وقُبِلت هناك كعاملة صغيرة، لتصبح هذه الشركة فى حياتها العملية المحطة الثانية والأخيرة، فقد قضت فيها حتى الآن ما يقرب من 33 عاماً، حتى صارت «صديقة عطية أحمد»، كما يطلق عليها رؤساؤها فى العمل، «الجوكر» فى قسم الملابس بالشركة. عُينت «صديقة» عاملة فى الشركة وهى ابنة 16 سنة، كان راتبها حينها 6 جنيهات، ظل يزيد طردياً مع سنوات عملها، وعندما بلغت التاسعة عشرة تزوجت شريك حياتها، يعمل سائقاً على سيارة أجرة يمتلكها والده، استمرت الابنة فى مساعدة أسرتها حتى بعد زواجها، كانت تدرك أن واجبها وهى الابنة الكبرى أن تساند إخوتها الأصغر، ولم تمر فترة طويلة حتى رزقها الله ابنتها «سارة» ثم ابنها الأوسط «أحمد»، زادت الضغوط المادية شيئاً فشيئاً، وما لبثت أن حدثت الفاجعة الكبرى فى حياتها، الزوج مريض بالقلب ويحتاج إلى عمليات جراحية وتركيب صمامات بالقلب، نظرت الأم حولها فوجدت نفسها محاطة بمسئولية لا تعرف إن كانت ستستطيع تحملها أم لا، ولكن لم يكن فى مقدورها إلا أن تحاول، وهكذا فعلت، فبدأت تبحث عن عمل إضافى بجانب عملها فى الشركة، فكانت تنهى ورديتها الأولى بالشركة، لتبدأ وردية أخرى فى مصنع خاص حتى تستطيع تدبير نفقات منزلها، صحيح أن العمليات أُجريت للزوج فى مستشفى حكومى بمحافظة الغربية بعد طول انتظار فى قوائم المستشفيات الحكومية، إلا أن المشكلة ظلت فى مصاريف التحاليل والأشعة والأدوية التى دائما ما كانت غير متوافرة بالمستشفى، فلم تجد «صديقة» أمامها إلا أن تبيع قطعاً من أثاث منزلها، وتصل الليل بالنهار وهى تعمل، من السابعة صباحاً حتى الرابعة مساء فى شركة غزل المحلة، ومن الخامسة حتى العاشرة مساء فى مصنع الملابس، وعندما تعود إلى منزلها تعكف على ماكينة الخياطة لتصنع ملاءات تبيعها لجيرانها ومَن حولهم. تنهيدة طويلة أطلقتها «أم سارة»، كما تحب أن يناديها الناس، ثم قالت: «كانت أيام صعبة علىّ قوى أنا وأولادى، وكنت بحس بنار جوايا لما أحس إنى مش قادرة أقدملهم كل اللى محتاجينه، خاصة إن أبوهم فضل تعبان فترة طويلة بعد العمليات، وكنت أنا عمود البيت اللى لازم يفضل صالب طوله عشان البيت ما يقعش، وعشان كده أنا لما بشوف حال الشركة دلوقتى بحزن على حالها وأقول: معقول دى اللى كانت بتصدر منتجاتها لكل دول العالم تقريباً؟!». تكمل «صديقة» حديثها عن الشركة وتقول: «من يوم ما اشتغلت فيها والمنتج لم يطور، حتى المهندسين اللى شغالين فيها مش على مستوى المهندسين اللى كانوا شغالين فيها قبل كده، حتى العامل فى الشركة كان فيه اهتمام بيه وبتطوير أدائه لدرجة إن كان فيه عمال ومهندسين بيسافروا فرنسا وأمريكا ياخدوا دورات تدريبية فى أحدث طرق التصنيع ولما يرجعوا يدربونا، دلوقتى مفيش الكلام ده خالص». تتذكر «صديقة» يوم أن فازت منذ 20 عاماً بلقب العاملة المثالية، حينها تسلمت جائزتها التى كانت عبارة عن فوطتين وملاءة كبيرة، وصممت منذ ذلك الحين على أن تهديها لابنتها «سارة» فى جهازها، صحيح أنها ستكرَّم هذا العام أيضاً بصفتها العاملة المثالية فى قسمها من نقابة العمال، لكنها كانت تتمنى أن يكون هناك تكريم من شركتها على مجهوداتها، وأن يكون هناك تكريم للعمال الذين يخرجون على المعاش ليجدوا أنفسهم يتقاضون معاشاً لا يزيد على 500 جنيه، تحلم أيضاً أن يعود الاهتمام بتطوير أداء العمال حتى يتمكنوا من منافسة منتجات المصانع الخاصة. ابنة «صديقة» تخرجت فى كلية التمريض وانتسبت أيضاً للدراسة فى كلية التجارة، بينما يعمل ابنها الأوسط مصمم جرافيك، فيما لا يزال الصغير فى مرحلة التعليم الابتدائية، تنظر الأم إلى جدران منزلها وتقول: «أنا تعبت عشان أبنى البيت ده طوبة طوبة، وأنا عمرى ما هنسى فضل شركتى علىَّ»، هكذا تصف شركة مصر للغزل والنسيج «لأن الشركة وقفت جنبى وجنب جوزى وأولادى فى محنتنا بمرتبى اللى كنت باخده منها، وحتى لو فيها مشاكل كتير لكن هفضل أحبها وأتمنى لها الخير وأفتخر دايماً بأنى عاملة فى شركة مصر للغزل والنسيج». أخبار متعلقة «أم سارة»: 33 سنة فى «غزل الهموم» «ياسر»: 9 ساعات «أشغال شاقة» مقابل 33 جنيهاً «صبحى».. حياة تحت رحمة «الفلنكات» «كفر الدوار».. غزت العالم مع «ناصر والسادات» وانهارت فى عهد «مبارك» تقرير حقوقى: 82% من مصابى الثورة «عمال».. و12 مليوناً محرومون من «الحماية». «غزل المحلة».. قلعة دمرها «الفساد والخصخصة والإهمال» «سمنود».. الفساد يعلن عن تحويلها إلى شركة مساهمة «منسية» رئيس «غرفة الصناعة»: نخسر 40 مليون جنيه يومياً *