سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
«زقزوق».. شاهد على التحول من «العصر الذهبى» إلى «عصر الصفيح» نظام «مبارك» دعم الاستثمار على حساب الشركات العامة.. والحكومة ألغت صندوق دعم صناعة الغزل «اللى كان بيدعم الفلاح»
يجلس محمد زقزوق فى زاوية متسعة من شقته التى تتوسط مساكن شركة كفر الدوار للغزل والنسيج، بعد أن أفنى 45 عاماً من عمره بها، جدران الشقة العتيقة تزينها رسومات حديثة تزيدها بريقاً، ولا يظهر على وجه الرجل أى إشارة لسنوات عمره التى قاربت على السبعين، باستثناء شعر أبيض كثيف يغطى رأسه، فوجهه مبتسم وخالٍ من التجاعيد. يُمسك زقزوق بنسخة قديمة من جريدة «الناصرى» ويدقق النظر فى بعض أخبارها، ليتذكر العصر الذهبى لشركة مصر للغزل والنسيج بكفر الدوار، يقول «زقزوق»: «قعدت فى شركة كفر الدوار 45 سنة وطلعت معاش بقالى 6 سنين»، يحن الرجل إلى «أيام زمان» ويسترسل فى ذكرها، يطل أحياناً من شرفة شقته التى يسكن بها منذ عقود، وينظر إلى مبانى الشركة العريقة بتمعن، فيُحزنه ما آلت إليه من أوضاع، لا يفصله عنها سوى أمتار قليلة، تهفو أذنه إلى سماع صافرة بدء الورديات ونهايتها. التحق «زقزوق»، كما يروى، بالمدرسة الثانوية الصناعية، قبل نهاية خمسينات القرن الماضى، عندما كان عمره أقل من 14 سنة، وفور تخرجه فيها عام 1962، أرسلت شركة مصر للغزل والنسيج خطاباً إليه تُبلغه بتعيينه فى ورش الشركة، بعدها بشهر واحد، فوجئ بإرسال شركة «مصر للصباغة البيضاء» خطاباً إلى شركة الغزل تطلب تعيينه بها، ويقول: «لكنى اخترت مصر للغزل والنسيج» وعُين وعمره 16 سنة، «أول مرتب أخدته كان 9 جنيهات»، بينما كان آخر مرتب حصل عليه بالشركة 900 جنيه، وحصل على أرباح قيمتها 5 قروش فى أول سنة تعيين، «ودى كانت أول مرة يتصرف فيها الأرباح منذ إنشاء الشركة فى سنة 1938» حسب وصفه، وعمل فنياً بإدارة النقل الكهربائى الخاص بنقل الإنتاج عن طريق البطاريات «فى الوقت ده، الشركة كانت تمر بأزهى عصورها»، يُرجع زقزوق ظهره للخلف، ثم يُكمل مفتخراً: «إحنا كنا بنصدر الغزل الرفيع والخيوط والأقمشة لكل دول العالم، كنا بنتعامل مع 750 شركة عالمية»، نظام العمل كان مثالياً للغاية، ومُقسماً على 4 ورديات، «كنت بحب شغلى أوى وأروح قبل موعد ورديتى بنص ساعة، مش بس كده، دا أنا كنت باحلم بنبيه عامر بالليل عشان كان بيحبنى أوى» هذه الأحلام دفعت والد زقزوق للسؤال عن صاحب هذا الاسم «دا مديرى فى الشغل». يزداد حماس «زقزوق» كلما تذكر أيامه فى الشركة، ويرفع صوته وهو يقول: «كنا بناخد الأكل معانا من البيت، ونرجع بيه تانى من كُتر الشغل» حينذاك كان يستقبل العمال ثقل العمل وكثرته بحب شديد، وروح عالية، ظل «زقزوق» على هذا الحال بضع سنين حتى طُلب للتجنيد فى عام 1967 وظل بالجيش حتى انتهاء حرب أكتوبر، وعاد إلى وظيفته من جديد. مدخل الشركة المزين بالأشجار كان يفيض بالعمال ليلاً ونهاراً، «عدد عمال كل وردية كان زيادة على 6 آلاف واحد»، كنا بنفضل استلام شغلنا قبل ميعاده بنص ساعة عشان لما ييجى ميعادى أكون شغال، الناس كانت بتحب الشغل مش زى دلوقتى، حسب وصفه. يتنهد محمد زقزوق ويصمت لثوانٍ قليلة، ويكمل: «كنت بوفر فى الخامات والمنتجات» طلب الرجل من الإدارة الفنية عدم بيع البطاريات خردة ليستخرج الرصاص منها ويعيد استخدامه عن طريق تسييحه فى المسبك الخاص بالشركة، «أنا استفدت بصراحة والشركة صرفت لى حوافز»، شركة مصر بكفر الدوار بها ورش فنية كبيرة مثل الورشة الميكانيكية التى كانت تُصنع أنوال النسيج، وبعض قطع الغيار «دا إحنا كنا بنعمل قطع غيار لشركة الحديد والصلب»، كل الخامات والمستلزمات كانت متوفرة «الفنى بيشغل دماغه» واستطاع تصنيع التروس «على فكرة مش أى حد يصنع الترس، دا بيتعمل بالمسطرة والملى»، ينبسط وجه الرجل ويقول بارتياح: «شركة كفر الدوار بها مسبك عالمى يصب أى حاجة» كان يعمل لصالح الغير، ورشة النجارة أيضاً لا تقل عن كل ما سبق، فكانت تصنع «التخت» للمدارس، إضافة إلى ورش التصليحات ومعمل تحليل الخامات وقسم المبانى والمستشفى، كل هذه الأقسام كانت من أهم مميزات الشركة، ومصدر فخرها واستطاعت تحقيق اكتفاء ذاتى، حسب وصفه. يتذكر «زقزوق» واقعة تدل على عظمة الشركة التى لن ينساها ما دام حياً، وذلك بعد إنشاء 3 وحدات ملابس جاهزة وأقمشة وملايات وفوط ومناديل، تقول القصة كما يرويها: «سافرت ابنة أحد زملائى ممن كانوا معى وقت التجنيد بالجيش إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية بمنتصف السبعينات فى بعثة تعليمية وقبل عودتها من هناك، اشترت مجموعة ملابس وأقمشة لتهديها لأقاربها وطلبت من صاحب المحل أن تكون من أجود الأنواع، وحضرت بها إلى القاهرة ولما جت تفتح الشنط وتوزع الهدايا اكتشفت أن الاقمشة التى تفتخر بها أمام أسرتها مصنوعة فى كفر الدوار»، انخفض صوت «زقزوق» فجأة، وامتزج بنبرة حزينة عندما تذكر بداية تراجع الشركة الذى بدأ منتصف الثمانينات حسب روايته، وذلك بعد دخول القطاع الخاص فى إنتاج الغزل والنسيج والملابس الجاهزة، فأغرى العمالة المدربة بالمرتبات الكبيرة، وهجر عدد كبير من عمال كفر الدوار الشركة واتجهوا إلى مصانع القطاع الخاص، وهو ما اضطر الشركة إلى الإعلان عن حاجتها لعاملين جدد دون أدنى تدريب «كنا بنذيع وندلل فى الميكروفون على العمال»، حينذاك كانت مرتبات شركة كفر الدوار حوالى 100 جنيه فى الوقت الذى كانت تدفع فيه الشركات الخاصة 300 جنيه للعامل الواحد شهرياً، بل التهمت القطن المصرى طويل التيلة «واضطررنا لاستيراد القطن من السودان ودا أسوأ قطن موجود فى العالم، كنا بنحط عليه تراب عشان ينشف». الحكومة أيضاً ساهمت فى تدهور صناعة الغزل والنسيج، ففى التسعينات ألغت صندوق دعم صناعة الغزل والنسيج الذى كان يدعم الفلاح. ورغم كل الصعوبات التى كانت تواجه العامل، فإنه أثبت أنه البطل الأول، فقد تحمل رداءة الأقطان وتقادم ماكينات الإنتاج، نظام حسنى مبارك فتح ذراعيه للقطاع الخاص وأدار ظهره للشركات العامة كثيفة العمالة، وبعد الألفية الثانية لم تعد الشركة قادرة على توفير مرتبات العاملين، فوفرت الحكومة 60% من الرواتب، بينما دبرت الشركة 40% عن طريق «الفهلوة» كما يحكى محمد زقزوق الذى اختتم حديثه بصوت خفيض عندما تذكر حصار الجيش لمدينة كفر الدوار عام 1953 بعد إضراب عمال شركة مصر للغزل والنسيج وإعدام خميس والبقرى لقيادتهما الإضراب، والقبض على عدد كبير من العمال والإفراج عن بعضهم لاحقاً، لكنه لم يذهب إلى موقع إعدام خميس والبقرى بالنادى الرياضى بمقر الشركة، «كنت صغير وخفت أروح هناك»، وسرعان ما تخلص الأهالى من غضبتهم ضد ثورة الضباط الأحرار، بسبب إنجازات عبدالناصر حسب وصفه، عايش الرجل المسن أيضاً إضراب الشركة الشهير عام 1984 وقت تولى عبدالعزيز حجازى الوزارة، بسبب خصم المتغيرات وارتفاع الأسعار، ومع ذلك لم يمنع الإضراب العمال عن مواصلة العمل، «وردية الراحة كانت بتعتصم، ووردية الشغل بتنتج» ويقول أخيراً: «ليت الزمان يعود يوماً، أحب الشغل وأقدسه وتعودت على الصحيان بدرى، عشان كدا بافتح مكتبة الأدوات المدرسية بتاعتى الساعة 6 الصبح، وهو نفس ميعاد ورديتى فى شركة كفر الدوار الله يرحمها». أخبار متعلقة: «مصر للغزل».. «نموذج عادى جداً» لمأساة العمال