رائحته العطرة تملأ المكان، رغم ابتعاد منزله عن تلك اللافتة قرابة كيلومتر، غائب هو عن العالم منذ أيام، لكنه حىٌ وسط رفقائه، ينظرون إلى مكانه داخل المصلى، ويهابونه فهو «القائد الإمام»، غير أن أصوات الطلقات تباغتهم، فتذرف أعينهم الدموع، وتغتالهم حقيقة موته.. يطلقون عليه لقبين؛ الأول «الشيخ» أما الثانى فهو «سيادة اللواء».. محمد بدر عاش نصر 73 ولم تهزمه نكسة 67؛ لم تقتله الحروب ولم تدركه يد الأعداء، فيما استطاعت طلقات غادرة أن تودى بحياته على أيدى مجموعة من لصوص «كابلات الكهرباء». داخل حى «العاليا» بمدينة العبور لم تنقطع عادته، تدق الساعة الثانية صباحاً، ميعاد استيقاظه، يهب الرجل الستينى تاركاً سريره، يخرج من غرفته الوحيدة التى جعلها معاشاً له ولزوجته ليلاً، فى ذلك البيت الفخم الذى يضم بين أركانه أولاده وأحفاده، ينتهى من الوضوء، ثم ما يلبث أن يهبط على درجات دهليز فيلته فيصل إلى صالون، هو المكان الذى يُناجى فيه ربه ليلاً، تورمت قدماه من أثر قيام الليل، وقبيل موعد أذان الفجر يخرج من بيته متعطراً ومرتدياً جلبابه الأبيض يشبه بياض قلبه، مبتهجاً بلقاء حبيبه، هكذا تحكى زوجة «الشيخ محمد» عن آخر لحظاتها مع إمام المصلين فى مسجد المدينة النورة. فى العشر الأواخر من رمضان وبينما يختم «بدر» القرآن للمرة الرابعة - فقد اعتاد على قراءة كتاب الله كاملاً كل خمسة أيام- طالعه وجه «إبراهيم»، شاب عشرينى يجلس أمام باب المسجد، فربت على كتفه بحنو وناشده أن يحنى وجهه لله بالصلاة، فكان أكبر جميل يصنعه للشاب القادم من الفيوم «كان راجل طيب جداً.. ربنا بعته سبب عشان يهدينى.. لحد دلوقتى مش قادر أصدق إنه مات»، سيرته الطيبة يرددها الجميع داخل الحى الذى يحوى بين جنباته نحو 1800 فيلا، جميع أصحابها يعرفونه بالاسم، الأطفال والكبار، حتى الخفراء يعتبرونه أباً لهم. «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته السلام عليكم ورحمة الله» قالها فرددها من خلفه المصلون، قبل أن ينوى البدء فى صيام «الست البيض».. انتهى من صلاته فراح يجلس على كرسى بلاستيكى فى أحد أركان المسجد، مكانه الدائم فيما التف حوله عشرة أفراد يرددون وراءه ما تيسر من القرآن وراء قائدهم المحارب الشيخ «بدر»، وما إن ينتهوا حتى يتناقشون خارج أبواب المسجد حول أوضاع المنطقة الأمنية التى شهدت انفلاتاً على مدار الشهور الماضية، زاد فى الأيام الأخيرة من قبل بعض «العرباوية» الذين يهاجمون المكان فى جنح الظلام، بينما يطمئنهم الرجل الكبير مكتفياً برفع أكف الضراعة إلى الله داعياً «ربنا يطلعنا منها على خير ويحسن ختامنا».. إلا أن فجر الأحد الماضى 26 أغسطس كان مختلفاً، توجه صوب منزله مردداً أذكار الصباح، صلّى ركعتى الضحى فانخفض جبينه نحو الأرض فيما ارتفعت درجاته لدى الخالق، شعرت رفيقة دربه بغصة فى القلب قبل أن يرن هاتف الزوج فهرع مسرعاً وهو ينبئها بوجود مجموعة من البلطجية يحاولون سرقة «كابلات» الكهرباء، ناشدته بألا يتركها وحيدة فأخبرها بأن نزوله حتمى، مؤكداً أن «العمر واحد والرب واحد»، اصطحب أكبر أبنائه «محمد» وطالبه بجلب بندقيته الخرطوش، لم يبطئ خطاهم سوى صيحات ربة المنزل: «ناوى على إيه يا بدر تسيبنى لوحدى ولا تيتم أحفادك».. لم توقفه كلماتها فقد اتخذ قراره بحماية المال العام.. هكذا تعود «دى فلوس الدولة ومينفعش نسيبها تتسرق».. مر على باب مسجده فركب «أيمن» المؤذن، وبجواره أحد أفراد الأمن بالحى وأحد جيرانه، طالبه ابنه الأكبر بالتريث حتى تصل الشرطة التى أكدت له أنها ستصل فى غضون دقائق، فرد الرجل بابتسامة «مفيش حد هيجيلنا كالعادة». يجلس على قدم وساق وأمامه قطعة خشبية موضوع عليها جسد «بدر» الذى لا يحرك ساكناً، يدنو منه الطفل ثم يطبع قبلة على جبهته.. «خلى لسانك حلو مع الناس.. متضايقش حد متفتريش على خلق الله وماتؤذيش حد» يحكى الحفيد الوحيد الذى يحمل اسمه بصوت مبحوح وعينين دامعتين عن وصايا الجد الذى سماه أسوة بأحب سور القرآن إلى قلبه «ياسين»، رغم سنه الصغيرة التى لم تتعد 9 سنوات يقف مع والده ليأخذ واجب العزاء فى «قرة عينه» يمسك بيمينه مصحفاً مدوناً فى أولى صفحاته آيات من الذكر الحكيم «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِى فِى عِبَادِى وَادْخُلِى جَنَّتِى» صدقة جارية على روح المغفور له بإذن الله «محمد محمد بدر رخا»، تزوغ عين الحفيد فيأتيه مشهد الجد «عايزك يا ياسين تختم القرآن زيى وتحفظ كلام ربنا» دمعة باردة تنزل على جبين الطالب فى الصف الثالث الابتدائى فيما تصبّره لحظات صعود روح «حبيبه» التى شعر فيها بأنه من رواد «الجنة»: «أول ما شفته قالوا لى جدك مات بس لقيته بيضحك وريحته مسك». الدقائق مرت والشرطة لم تصل بعد، شغل محرك سيارته ثم ضغط برفق على «دواسة البنزين» واتجه الخمسة صوب اللصوص، فاجأوهم من الخلف، فلم يرتدع «العرباوية».. 5 أشخاص مجردون من الأسلحة اللهم إلا سلاح واحد فى مواجهة 8 ملثمين مدججين بالمدافع الآلية يقبضون عليها دون ذرة خوف، خاطبهم المحارب القديم «يا بنى حرام عليكم تسرقوا مال الغلابة» فيأتيه الرد بلكزه من أحدهم فى صدره قبل أن يهدده بصوت أجش «ملكش دعوة أنت بالموضوع وروح على بيتك بدل ما أصفيكم كلكم».. الوقت يمر ببطء شديد ولم يأت أى من جيران المنطقة فالشمس لم تشرق بعد، والشرطة لم تأت هى الأخرى، واللصوص مستمرون فى تحميل الكابلات داخل سيارتهم، وهو ما دعا الشيخ «بدر» إلى تهديدهم مرة أخرى: «أنا بقولكم إن المأمور وقوة من القسم جايه دلوقتى.. وبنصحكم إنكم تبتعدوا»، تجاهلوا حديثه فيما اقترب أحد الملثمين منه وبمجرد أن رأى رأس البندقية القابعة فى سيارته شد أجزاء مدفعه الرشاش، خبرة الرجل العسكرية جعلته يرتجل فى قراره ليندفع مسرعاً بسيارته قبل أن تصوب فوهة «الرشاش» ذخيرتها عليهم، أصوات الرصاص هى سيدة الموقف، لحظات عاشوها كسنين، شعرة صغيرة فصلتهم ما بين الحياة والموت، المؤذن يردد الشهادة وفرد الأمن يختبئ خلف كرسى القيادة، والجار يصمت من الهلع، فيما يحتضن الأب ابنه ليحميه من طلقات الرصاص التى انهالت عليهم كالمطر، يمنة ويسرة يحاول «بدر» الفرار من أعمدة النيران، قبل أن تستقر سيارته بجزيرة وسط الشارع، حين اخترقت رصاصة عجلة السيارة الأمامية. «أبويا مات شهيد.. لسة كنت كاشف عليه ومعندوش برد حتى.. بس ربنا بيختار عباده الصالحين» يقولها «محمد» الابن البكرى ل«الشيخ» بدر، محمد وأخوه أحمد يمتلكان ورشة لقطع غيار السيارات بمنطقة الحرفيين إلا أن الكساد الذى غطى على تجارتهما بعد الثورة أجبرهما على إغلاق محل رزقهما مكتفيين بالجلوس فى كنف الأب: «كلنا عايشين فى خيره.. بالرغم إننا كبار كان هو المتكفل بينا وبعيالنا» تمنى محمد أن يختاره الموت بدلاً من والده الذى كان نائب وزير الإنتاج الحربى السابق إلا أنه يوقن بأن الله قد اختار رب الأسرة للشهادة «هو كان يستحقها». لم تقهره الحروب التى خاضها إلا أن رصاصة غادرة اخترقت ظهره لتستقر فى القلب جعلته فى عداد الشهداء، تلك الأمنية التى يحتسبها أهله وكل من رافقه المسيرة، لم يزل مؤذن المسجد شاخصاً بصره صوب المكان الذى اغتيل فيه «إمامه»، غير مصدّق أن الرجل الذى كان له أباً وأخاً قد غادر دنياه فى لمح البصر، بينما تجلس زوجته فى ثوب السواد مكلومة مغلوبة على أمرها، تزوجت «بدر» وهى بنت الرابعة عشرة، لم تعرف سواه فهى تربت فى كنفه، تكابد الأسرة بكل السبل القصاص لفقيدها فيما يرتع المجرمون فى الأرض، بل يبعثون إليهم برسائل تهديد وطلب فدية عن جرح أحدهم بالمعركة.. وفى أحد أركان مسجد المدينةالمنورة يجلس «ياسين» الحفيد وحيداً يمسك بكتاب الله ويقرأ ما تيسر من القرآن، وعندما يفتقد جده «بدر» يذهب إلى كرسيه الذى كان يجلس عليه فيطبع «قبلة» علّها تصله فى الجنة.