عندما تطالع عزيزى القارئ هذه السطور، يتبقى من الزمن ساعات معدودة قبل بدء الاستفتاء على مصير شبه جزيرة القرم، التى سيختار سكانها بين البقاء ضمن أوكرانيا أو الانضمام إلى روسيا.. ولأن أغلبية هؤلاء من أصول روسية، فليس من الصعب تخمين النتيجة، التى ستصبح فى واقع الأمر تدشيناً رسمياً لدخول موسكووواشنطن فى صراع جديد! كلُّ مَنْ يعرف الزعيم الروسى فلاديمير بوتين يوقن أن قطاره الأوكرانى غادر المحطة بسرعته القصوى التى يستحيل معها إيقافه، ولولا اللائمون لما احتاج قيصر الكرملين استفتاءً يُشرِّعُ أحلامه فى استعادة أمجاد الماضى، ويثبت صدقه حين اعترف بمرارة قبل سنوات أن انهيار الاتحاد السوفيتى كان أكبر كوارث القرن العشرين! كان بوتين طفلاً يحبو فى عامه الثانى حين قرر الزعيم السوفيتى ذو الأصل الأوكرانى اقتطاع القرم من روسيا وضمها إلى أوكرانيا.. لم يعترض الروس على القرار؛ إذ كان بمثابة تغيير ديكورات داخل منزل واحد! بعد مرور ستين عاما اختلف الحال.. لا يرغب القيصر فى أن يقدم ثوار أوكرانيا الجدد بلادهم هدية للاتحاد الأوروبى، ولا يطيق أن يتخيل جنود الناتو وهم يرقصون داخل بارات كييف أو يقطفون الورد من حدائقها! بالسرعة ذاتها التى خَدَعَ بها الغربُ موسكو فى العراق وليبيا رَدَّ «بوتين» فى القرم! ساحةٌ جديدة لحرب يأمل طرفاها ألا تشتعل! ربما يتساءل الزعيم الروسى: هل يليق إدراج الشقيقة الصغرى والجارة أوكرانيا فى سجل الهزائم الدبلوماسية التى مُنيت بها روسيا على يد الغرب؟! ألم تتعهد واشنطن عندما حُلَّ الاتحاد السوفيتى بعدم اقتراب حلف الناتو من حدود روسيا؟! هل كُتب علينا شُربُ كأس الخديعة مرات ومرات؟! أغلب الظن أن تلك عينةٌ من أسئلة عديدة راودت «بوتين» قبل اتخاذه قرار «استعادة» القرم إلى الحضن الروسى، وهو ما أشعل ضده حرباً سياسية حامية الوطيس! يتبارى «أوباما» و«كاميرون» و«ميركل» فى إرسال تهديدات لروسيا بفرض عقوبات اقتصادية وعزلة دبلوماسية واستبعاد من مجموعة الثمانى الكبار، وسط ذلك يتطوع بول روبرتس، أحد مساعدى الرئيس الأمريكى الأسبق رونالد ريجان، بترجمة رسائل قادة الغرب: «إنها مجرد دعاية للاستهلاك المحلى.. هم يعرفون جيداً أن فرض أى عقوبة سيحمل تبعات سلبية على مصدرها؛ فمثلاً لو تحركت ألمانيا فى هذا الاتجاه ستُحرم من الغاز الروسى وسيصبح اقتصادها مُهَدداً بدرجة كبيرة!». قد يتمنى أوباما أن يتحرر من أسر منصبه، ليناقش ورطته الأوكرانية بشكل صريح، ولعله يشعر بحسد تجاه وزيرة الخارجية السابقة كونداليزا رايس التى عبَّرت بصدق عن آلامها النفسية نتيجة إجراءات «بوتين» فى القرم! تحدثت مهندسة «الفوضى الخلاقة» إلى صحيفة «واشنطن بوست»، ناصحةً الغرب أن يؤكد للرئيس الروسى عدم التسامح مع أى خطوات «جديدة» فى أوكرانيا! على الدوام، تبدو موسكو حاضرة فى ذهن «رايس» التى تتباهى بتميزها فى شئون الجمهوريات السوفيتية السابقة وإجادتها للغة الروسية.. ورغم تركها وزارة الخارجية عام 2009، فإنها تحرص فى كل مناسبة على الإدلاء بآرائها المتشددة ضد روسيا! أتذكرُ زيارتها إلى موسكو فى أبريل 2005، التى انتقدت خلالها ما اعتبرته تركيزَ قدرٍ هائل من السلطات فى يد الرئيس؟! حينها رد نظيرها الروسى سيرجى لافروف بأن بلاده ليست فى حاجة لمن يعلمها كيف تعيش، وزاد على ذلك مطالباً واشنطن بالاعتراف بالمصالح القومية لروسيا فى جمهوريات الاتحاد السوفيتى! كان الكرملين آنذاك يخشى امتداد «الفوضى الخلاقة» إلى أسواره.. قام زعيمه بكل ما فى وسعه لصد ما يعتبره «موجات التغيير المستورد»! لكن واشنطن، التى يراها متخفية خلف لافتات «فريدوم هاوس» و«صندوق جورج سورس»، لم تفقد الأمل فى انضمام الميدان الأحمر إلى ساحات الثورات الملونة! ومع تسارع وتيرة تطورات الأزمة الأوكرانية، لا يبدو أن «فلاديمير» مستعدٌّ للتخلى عن أحلامه، وليس من المحتمل أن يتخذ «أوباما» قرارات تخفف آلام «كونداليزا».. على الأقل حتى لحظة كتابة هذا المقال!