فى خريف 2006 اشتعلت أزمة سياسية بين روسياوجورجيا، إثر القبض على أربعة عسكريين روس فى مدينة جورجية بتهمة التجسس لصالح موسكو.. كان «الكرملين» قد بدأ انسحاباً تدريجياً من قاعدتين عسكريتين له فى جورجيا، حسب اتفاق البلدين، ما جعل السلطات الروسية ترد بتعليق الانسحاب.. شعرت بأن الأمر يستحق المتابعة عن قرب، فقمت بالاتصال بالناطقة الإعلامية باسم الرئاسة الجورجية وطلبت إجراء حوار مع الرئيس ميخائيل ساكاشفيلى، الذى التقيته أكثر من مرة أثناء تغطيتى لثورة الورود عام 2003.. لم يتأخر الرد الإيجابى طويلاً.. حطت بى الطائرة فى مطار العاصمة (تبليسى) قبل الموعد المحدد للحوار ببضع ساعات.. فى الطريق إلى القصر الرئاسى مررت بشارع يحمل اسم الرئيس الأمريكى (جورج دبليو بوش).. حملتُ دهشتى فى صيغة سؤال طرحته على الزعيم الجورجى: هل يمكن أن يُطلق على أحد شوارعكم اسم فلاديمير بوتين فى المستقبل؟!.. رد ساكاشفيلى: (ربما يحدث ذلك يوماً ما.. تسمية شارع باسم بوش تعبيرٌ عن امتناننا لزيارته جورجيا فى ظروف تتعرض فيها لضغوط خارجية شديدة، لقد قال فى حق شعبنا كلمات طيبة أسعدت الجميع!).. بعد الحوار عرض علىّ ساكاشفيلى عدة صور تزين جداراً فى مكتبه، بينها صورة بوش الابن وهو يخطب فى مايو 2005 بساحة الحرية فى تبليسى.. لم يكن خطاب بوش مجرد كلمات طيبة، بل كان وعوداً تلخص الحلم الأمريكى الذى داعب عشرات الملايين فى جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق، وليس فقط فى جورجيا! بعد مرور ثلاث سنوات على وصول نظام موالٍ للغرب إلى السلطة لم يتحقق شىء مما وعد به بوش الغلابة الجورجيين، لكن ذلك لم يضعف رهان ساكاشفيلى على واشنطن.. كان الزعيم الجورجى الشاب يتقن اللغة الإنجليزية كأهلها، لكن مشكلته -كبقية نظرائه من زعماء الثورات الملونة- تتلخص فى عدم فهم (الكلمات الطيبة) التى تصدر عن ساكنى البيت الأبيض! ربما لعب ذلك دوراً رئيسياً فى إقدام ساكاشفيلى على مغامرة الهجوم على جمهورية أوسيتيا الجنوبية الانفصالية الموالية للروس فى أغسطس 2008، وهو ما قوبل برد عسكرى روسى كاد يبتلع العاصمة الجورجية تبليسى، التى لم يفصلها عن القوات الروسية سوى ثلاثين كيلومتراً!.. لم تدم تلك الحرب سوى عدة أيام، سمعت فيها موسكو الكثير من التهديد والوعيد الأمريكى والأوروبى، وفى النهاية حملت وزيرة الخارجية الأمريكية، كونداليزا رايس، اتفاق وقف إطلاق النار الذى صاغه الفرنسيون إلى ساكاشفيلى ونصحته بالتوقيع، فيما ترسخ انفصال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا وانضواؤهما بحكم الأمر الواقع تحت جناحى النسر الروسى! السيناريو نفسه يتكرر اليوم فى أوكرانيا.. قبل عشر سنوات سمع الأوكرانيون، الذين أنهكهم فساد النخبة الحاكمة، وعوداً براقة من زعماء الغرب بعدما أشعلوا الثورة البرتقالية.. تبدلت الوجوه فى قصور السلطة والثروة، ولم يحصل المواطن العادى من جنة الغرب الموعودة سوى السراب!.. فى الأزمة المستمرة منذ عدة أشهر نجحت (الكلمات الطيبة) الصادرة عن المسئولين الغربيين فى تحويل احتجاجات سلمية ضد نظام الرئيس يانوكوفيتش إلى عنف راح ضحيته عشرات الأشخاص.. لم يخجل السيناتور الأمريكى جون ماكين حين فسر زيارته إلى ميدان الاستقلال فى كييف بأنها (من أجل الدعم المعنوى للمتظاهرين، وليس بغرض التدخل فى الشأن الداخلى الأوكرانى)، وكذلك فعل العديد من المسئولين الغربيين!.. فهمت المعارضة الأوكرانية تلك (الكلمات الطيبة) كما فهم ساكاشفيلى مثيلاتها من قبل.. بل إن تلك المعارضة ذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير، حيث ترجمت التصريحات النارية، التى أطلقها أوباما عقب التدخل الروسى فى شبه جزيرة القرم، على أنها بواكير حملة عسكرية لتأديب قيصر الكرملين!. مشكلة هؤلاء وأمثالهم عدم قراءة التاريخ بشكل جيد، لذا لم يستفيدوا من تجربة ساكاشفيلى فى جورجيا الذى خاب ظنه فى الحصول على دعم عسكرى من حلف الناتو ضد روسيا عام 2008.. كما أنهم جميعاً لم يستوعبوا تجارب سابقة تورط فيها أصدقاء واشنطن بتفسير (كلماتها الطيبة) بشكل غير صحيح.. فعلها صدام حسين حين فهم كلمات السفيرة الأمريكية على أنها مباركة لغزو الكويت، ومن قبله شاه إيران رضا بهلوى الذى اعتقد أن ولاءه لواشنطن سيحمى عرشه إلى الأبد، ليجد نفسه بعد خلعه عاجزاً عن مجرد الحصول على العلاج فى أمريكا، التى لم تقبل وجوده كلاجئ على أراضيها!.. كما فعلها أيضاً (بلدياتنا) خيرت الشاطر حين صدق أن (الكلمات الطيبة) للسفيرة الأمريكية (آن باترسون) ورهانها على جماعة الإخوان ستحمى نظام الجماعة وممثلها فى قصر الاتحادية من غضب المصريين!.. فى كثير من الأحيان تبدو الحاجة ملحة إلى مترجم مخلص يساعد أصدقاء واشنطن على فهم كلماتها الطيبة!