وزير الخارجية: عجز دولي تجاه اتخاذ خطوات فعالة لإنهاء الحرب في غزة    وزير الخارجية: مصر ليست ضد حق دول حوض النيل في التنمية    كل ما تود معرفته عن حجز قطع أراضي ذوي الهمم.. «الإسكان» توضح التفاصيل    حياة كريمة في المنيا.. المبادرة وفرت بيتا جديدا لأسرة «جميل توفيق»    ضمن مبادرة "بداية".. منافذ متحركة لبيع السلع بأسعار مخفضة في المنيا الجديدة    نقابة الصحفيين تنعى يحيى السنوار: اغتيال قادة المقاومة لن يُوقف النضال ضد الاحتلال    الصحة العالمية: الإبلاغ عن 439724 حالة كوليرا و3432 وفاة بالعالم    31 أكتوبر.. انطلاق مهرجان القاهرة الدولي لموسيقى الجاز    رئيسة وزراء إيطاليا تعتزم إجراء محادثات مع «نتنياهو» بعد زيارتها للبنان والأردن    منها الإغماء المفاجئ.. حسام موافي يكشف علامات التهاب البنكرياس (فيديو)    تشكيل النصر ضد الشباب في الدوري السعودي.. رونالدو يقود الهجوم    مئات الزوار يتوافدون على ضريح إبراهيم الدسوقي للاحتفال بذكرى مولده -صور وفيديو    زيادة المرتبات وساعات حضور أقل| مفاجآت بمشروع قانون العمل الجديد يناقشها البرلمان    إجازات الجنود خدعت العدو.. ومازلت أشم رائحة النصر    وزير الخارجية: مصر حذرت في وقت مبكر من خطورة اتساع رقعة الصراع في المنطقة    وزير الخارجية: مصر ليس لديها مشكلة مع دول حوض النيل باستثناء إثيوبيا    تحت أنظار الخطيب.. الأهلي ينهي مرانه الأول في الإمارات استعدادًا للسوبر    ريال مدريد يتابع موهبة إيطالية    مفاجأة في موعد انتقال هالاند إلى برشلونة    إصابة شرطي سقط من قطار بمحطة البدرشين    5 مصابين في حادث سيارة ملاكي أعلى "بنها الحر"    حبس عاطلين لسرقتهم المنازل بالزيتون    التعليم التبادلى    محافظ سوهاج يتفقد سير العمل بمحطات الوقود ومواقف سيارات الأجرة -صور    حميد الشاعري ينعى الشاعر أحمد علي موسى    خالد الصاوي: كنت هلبس قضية بسبب العصبية    وزير السياحة يبحث التعاون مع رئيس شركة صينية كبرى في شغيل وإدارة البواخر    أخبار الأهلي : "بالقاضية.. الأهلي يهزم الزمالك ويتأهل لنهائي بطولة إفريقيا لكرة اليد    رئيس مصلحة الضرائب: الحزمة الأولى من التسهيلات الضريبية تشمل 20 إصلاحا    بهذه الكلمات.. رامي صبري ينعى وفاة الشاعر أحمد علي موسى    بوتين يتحدث عن طرح عملة موحدة لمجموعة بريكس    جامعة دمياط تحتل المركز الرابع محليا في تصنيف تايمز    محمد ممدوح يكشف أقرب شخصية جسدها إلى قلبه    الأمم المتحدة: 700 ألف نازح في جنوب لبنان معظمهم من النساء والأطفال    باستخدام تقنية ثلاثية الأبعاد.. جراحة متطورة تعيد الشكل الطبيعي لجمجمة فتاة    الصحة: جراحة متطورة تعيد الشكل الطبيعي لجمجمة فتاة باستخدام تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد    ماذا نصنع إذا عميت أبصاركم؟.. خطيب الجامع الأزهر: تحريم الخمر ثابت في القرآن والسنة    رئيس مجلس الأمن الروسي: نظام كييف يحاول صنع "قنبلة قذرة"    «بحبك يا زعيم وعملت اللي عليك».. إلهام شاهين توجه رسالة لعادل إمام    جوارديولا: لم أتخذ قراري بشأن تجديد عقدي مع مانشستر سيتي    عالم أزهري: الإسلام تصدى لظاهرة التنمر في الكتاب والسنة    34 ألف نسخة مزورة.. الداخلية تطيح بعصابة طباعة الكتب المقلدة في القليوبية"    ضبط 8 تشكيلات عصابية و239 قطعة سلاح وتنفيذ 86 ألف حكم خلال يوم    بحضور محافظ الإسماعيلية.. فرق قصور الثقافة تتألق في احتفالية العيد القومي    10 لاعبين يسجلون غيابا عن الزمالك في السوبر المصري.. هل تؤثر على النتائج وفرص الفوز بالكأس؟    ضبط المتهمين بالتعدي على طالب والشروع فى قتله لسرقته بسوهاج    دعاء الشهداء.. «اللهم ارحمهم وجميع المسلمين واجعل الجنة دارهم»    وزير الصحة يعلن أهم جلسات النسخة الثانية للمؤتمر العالمي للسكان والصحة والتنمية البشرية    الاحتلال الإسرائيلي يشدد من إجراءاته القمعية بالبلدة القديمة ومداخل الخليل بالضفة الغربية    غير صحيحة شرعًا.. الإفتاء تحذر من مقولة: "مال أبونا لا يذهب للغريب"    تحرير 21 محضرًا ضد مخابز مخالفة في 3 مراكز بكفر الشيخ    بث مباشر.. نقل شعائر صلاة الجمعة من الحرمين الشريفين    وزيرة البيئة تبحث مع نظيرها الأوزباكستاني آليات تعزيز التعاون بين البلدين    ارتفاع أسعار مواد البناء: زيادة ملحوظة في الأسمنت والحديد    وزير الصحة والسكان يؤكد أهمية تقييم التكنولوجيا الطبية في تعزيز الوضع الصحي    ترتيب الدوري الألماني قبل مباريات اليوم الجمعة    نشرة مرور "الفجر".. سيولة مرورية بطرق ومحاور القاهرة الكبرى    أسعار الذهب اليوم 18-10-2024 في مصر.. كم يسجل عيار 21؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوم فى جبال جنوب سيناء: «ملاذ آمن» لكل الهاربين
الطبيعة الخلابة تحتضن «الإحساس بالخوف».. والحياة القاسية
نشر في الوطن يوم 21 - 02 - 2014

لا حدود فى المكان بين الأشخاص والأشياء، وسط ذلك الهدوء العميق، يتراءى إلى مسامع الجالس.. حفيف الهواء الذى يُلامس برومانسية تارة وبخشونة تارة أخرى أوراق الأشجار وسعف النخيل، جناحات الذباب كوّنت صوتاً شبيهاً بأزيز الطائرات الهليكوبتر، الطبيعة خلابة، والمنظر جلل، ذكريات الوافدين، تتجلى رسوماً على إحدى الصخور «هنا اصطدنا الوعر.. وطاردنا الضب»، كتبها أحدهم للوافد يُذكّره بانتصاراته، هنا الاثنان يتجاوران، الإنسان والحيوان، لكنّ كلاً منهما يراعى إنسانية الآخر ومشاعره، يقتحم الإنسان خلوة الحيوان، فينسحب الثانى، ينتهى البنى آدم من خلوته، يغادر المكان، يترك فُتات الطعام لصاحب المكان الأصلى، يعود الحيوان مرة أخرى فى هدوء، متناولاً ما تركه له الوافد، كل معانى الإنسانية تجسدت هنا، فى هذا المكان الفسيح، لا حدود فاصلة بين أحلام الطفولة والشباب، اليأس صنع منهما مزيجاً مختلفاً، ليضحى الطموح كلمة خاصمت عقول اليافعين، ويُصبح سؤالاً مثل «نفسك تطلع إيه؟» صادماً للكثيرين.
حُجرة مُغلقة، فقيرة، أرضيتها رمال، سقفها خشبى، نوافذها مفتوحة على مصاريعها، مصباح إضاءة اعتلى أحد أركانها أشاع الضوء الأصفر بين جنباتها، مجموعة من الطوب متراصة على شكل مُربع اتخذت منتصف أرضية الغرفة، تحتضن بداخلها حطباً مُلتهباً، تتراقص عليه كنكة الشاى الألومنيوم، يسمونه «وقيد»، كِليم يدوى الصُنع يكسو بعضاً من أنحاء الغرفة، يجلس عليه 3 شباب فى منتصف العشرينات أو أقل، أكثرهم حديثاً «حميد»، نحيف الجسد قصير القامة يُزين ملامحه شارب خطّ وجهه، فيما يُنصت أحمد حسين إعمالاً بمقولة: «ربنا خلق لنا ودنين عشان نسمع أكتر ما نتكلم»، أما أقصرهم فهو «سعيد» الذى اتخذ رُكناً قصياً واضعاً كل تركيزه على إحدى الألعاب فى هاتفه المحمول، وقطرات الحماس تنسال منه، لا أحد يعرف هل هى بفعل الجو الحار الذى تسبب فيه الجمر، أم لعجزه عن المرور فى مراحل اللعبة، يقرفصون جميعهم، ثم ما يلبسون أن يتكوعوا، كل منهم يستند بإحدى يديه على الأرض فيُحمل عليها جسده. «دى اسمها التكويعة» يتحدث «حميد» وهو يُعدل جلبابه الأبيض، قبل أن يُقاطعه «أحمد» بصرامة: «خلينا نتكلم فى الجد شوية.. إيه المطلوب عشان رحلة بكرة؟».
بالنسبة للبدو فى جنوب سيناء، فإن الجبل الذى وُلدوا أسفله هو وسيلتهم الوحيدة للترفيه، لا يعرف الجبال سوى من غزاها، ومن تربى فى كنفها أيضاً، هكذا يفتخرون.. مع أول أطياف ضوء اليوم تبدأ الرحلة، بل إنها تبدأ قبل ذلك بساعات قليلة، قبل أن تُغادر الشمس أُفقها، جمع الشباب الثلاثة الأموال من بعضهم البعض، فُتات قليل لكنه يكفى وربما يزيد، ذهبوا إلى سوق الفاكهة، اقتنصوا كميات قليلة من الموز والبطاطا، نهاية بقدرٍ قليل من الدقيق والملح، علاوة على عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من علب التونة، اعتنى أحمد حسين بكل شىء، فهو مُنظم جيد لهذه الأمور، اعتلى أصدقاؤه سيارته رُبع النقل، فيما أمسك «حميد» بصاج حديدى مربع الشكل، ثقيل الوزن، ثم مضوا فى طريقهم، على وجوههم ارتسمت ملامح الفرح، يحاولون الترويح عن أنفسهم بأى طريقة ممكنة، تحركوا مع أول ضوء لشمس يوم جديد، وقتها اكتست الجبال باللون الأصفر الذهبى الخلاب، طريق متوسط المسافة اقتطعوه، لا يزيد على 10 كم، من مدينتهم «أبورديس» وحتى وادى بعبع، لم يُقابلهم فيها سوى كمين جيش واحد قبل المكان المرصود بأكثر من 5 كم، مروا من خلاله، ولم يسألهم شخص واحد إلى أين هم ذاهبون، فلا وجود لأشخاص يرتادون الجبال، سوى قاطنيها من البدو. على امتداد البصر، يرى المقبل صوب المكان قطعاناً صغيرة من الماعز، تجرها إحدى السيدات الملثمات ب«بيشة الحياء»، فيما ينشغل زوجها فى الجلوس.
صخور من الجرانيت بارزة من الأرض، مُدببة، تتخللها الرمال، لم تكن سيارة «أحمد» ترتقى لسيارات الجيب الحديثة المرتفعة بسنتيمترات كثيرة عن الأرض، لكنها كانت كالسيارات العادية، لا تتميز بشىء، اختلج الوافدين «غُصةٌ»، لكن «أحمد» جعل الطمأنينة تتسلل إلى قلوبهم: «ما تقلقوش.. أنا قلت لكم ما حدش يعرف الجبل غير اللى ساكنين فيه.. وكل الحاجات دى هنعديها.. لينا طريقتنا»، صوت محرك السيارة بدأ فى الصُراخ، أكثر من 5 مرات تقع السيارة فى المأزق ذاته، ثم تمرق بأمان.
لا توجد لافتات إرشادية تُظهر للوافد الجديد أين هو، لا أقمار اصطناعية يمكن الاستعانة بها لمعرفة المكان المحدد، كل الاتصالات مقطوعة، حتى شبكة ال«جى بى إس»، جبال من البازلت والجرانيت والمنجنيز تحد الوافد من جميع جهاته، تتوقف السيارة أمام مجموعة من الصخور البارزة بقسوة، يترجل الجميع ويبدأون السير على الأقدام، تاركين السيارة غير موصدة الأبواب، وبداخلها مفتاح التشغيل: «ما تقلقوش.. هنا مفيش صريخ ابن يومين»، قالها لنا «أحمد» بوجه بشوش، فيما تقمص «حميد» دور المرشد السياحى، زرع أخضر يتدلى من بين الجبال، زاد المشهد جمالاً وإبهاراً، وأعشاب تحاول شق طريقها فى أرضية الصحراء المنبسطة على امتداد الأفق، فيها شفاء للناس -وفقاً ل«حميد»- عُشب صغير يتخذ شكلاً دائرياً، يُدعى «السمواه» يستخدمه البدو فى تنظيف الجسد من بقايا التدخين، أو ما يدخل جوف المعدة من غذاء غير آمن، وحتى فى تنظيف الجروح وإزالة السموم من داخلها حتى لا تتقرح، استخدم البدو هذه الأعشاب فى علاج جروح الجنود المصريين الذين كانوا عالقين فى الجبال إبان حرب 6 أكتوبر.
مازال «حميد» يتقمص دور المرشد السياحى، يشرح للوافد الطريق ذاته الذى كانت تمر فيه السيول، يُفند «حميد» بعين الخبير والعائش فى حقيقة الجبال، الطريق الذى كان يستخدمه اليهود «هنا كانوا بيدقوا الخيم بتاعتهم.. وبيتحركوا بعربياتهم».
أكثر من 3 كيلومترات سيراً على الأقدام، مكان لا تطأه إطارات السيارات، إلا المُجهزة خصيصاً للطرق الوعرة، على يسار الوافد، وبعد أن يقطع نصف المسافة، تتراص أحجار من الجرانيت مُمتزجة بالبازلت فوق بعضها البعض، مكونة كهفاً، هكذا يبدو من النظرة الأولى لها، لكن فور حديث «حميد» يتغير ذلك المفهوم، ليضحى مكاناً يُسمى «تار اليهودى»، منذ عشرات السنوات، سب أحد اليهود أحد البدو، فاقتاده الثانى بدوره صوب تلك المنطقة، اجتز رقبته بالسكين، ثم دفنه، ووضع عليه تلك الأحجار، لا أحد يعرف ذلك المكان سوى البدو من أهل المنطقة ومرتادى الجبال، إلا أنه صار علامة مميزة و«سيم» بين البدو «قابلنى عند تار اليهودى».. يجذب «سعيد» أطراف الحديث متذكراً حديث أجداده عن تلك المنطقة: «اليهود كانوا بييجوا ينقبوا عن الذهب فى المكان ده.. فيه مجموعة منهم عارفين المكان أحسن من البدو».
فى منطقة واسعة، توقفت السيارة بين جبلين، أحدهما من البازلت والآخر من الجرانيت، كانا موصولين بأسلاك ضخمة قديمة، تعلق عليها عربات صغيرة، تستخدم فى نقل المنجنيز، والصخور النادرة من وإلى مصنع سيناء للمنجنيز، هذا علاوة على وجود مصانع أخرى تزخر بها المنطقة، مثل مصنع رمال الزجاج، التى تُعد من أنقى أنواع الرمال وتُستخدم فى صناعة الألواح الزجاجية والكريستال والمنتجات الزجاجية والفلاتر، بطاقة إنتاجية تبلغ 500 ألف طن سنوياً، فضلاً عن مصنع الجبس، يسترق أحمد حسين النظر صوب تلك الأسلاك التى تحمل عربات حديدية أشبه ب«التلفريك» فى الدول المتقدمة، قبل أن يُقلّب كفيه على ما حوت وهى خاوية «لو شغلوا كل سنة 100 شاب سيناوى البطالة عندنا هتنتهى.. لكن للأسف الدولة حتى مش عاوزة تشغّلنا».
انزوى «سعيد» فى ركن قصى، سائراً، يبدو للوهلة الأولى ساهماً، لكنه كان يبحث عن أشجار السيالة المنتشرة وبكثرة فى المنطقة، لحقه «أحمد» مهرولاً بحماسة شديدة «انت كل ده بتجيب حطب؟»، صعد أحمد صوب إحدى الأشجار الجافة، ثم ما لبث أن اقتطع منها جذوعاً جافة، من أخلاق الحياة فى الجبل عدم قطع جذوع خضراء: «ده عندنا حرام.. واللى يعمل كده يتحدد له جلسة عرفية فيها غرامة». أجود أنواع الحطب من تلك الشجرة، لأنها تظل محترقة لفترة طويلة، إضافة إلى رائحتها الزكية المنبعثة من أخشابها أثناء الاحتراق، علاوة على استخدامها كفحم لجودته العالية، أما أزهارها وأوراقها فهى بمثابة علف للحيوانات، بالإضافة إلى احتوائها على أجود أنواع الصمغ الذى يُستخدم فى علاج أمراض المعدة.
بدأت الرحلة الحقيقية فى الجبل، كيس بلاستيكى، احتفظ فيه «أحمد» بكمية قليلة من الدقيق، تقمص الشاب العشرينى دور «شيف» الجلسة الجبلية.. «كان نفسى أطلع طباخ.. بس أكيد لو قدّمت وشافوا فى بطاقتى إنى من جنوب سيناء مش هيشغلونى»، كلمات قالها «أحمد» من مرارته، امتزجت بالسخرية من موقف الدولة منهم، الحاصل على دبلوم صنايع منذ أكثر من 8 سنوات، لم يجد عملاً، بالرغم من مدينته «أبورديس» المليئة بشركات البترول، لا يرى أى مزايا للثورة سوى ميزة واحدة: «بعدها على طول عملنا وقفة قدام شركات البترول.. ولولاها ماكنتش اشتغلت أمين مخازن فيها».
يتداخل مع صوت العجن، حديث «حميد» بعد أن جلس متكوعاً على يده اليُسرى: «أنا بقى كان نفسى أطلع طيار.. أشوف الثروات اللى فى مصر» قبل أن يجنى قدره السيناوى على طموحه: «معايا عربية ربع نقل.. باشتغل عليها كل فين وفين».. ترك «سعيد» هاتفه المحمول، تحدث بأنين مسموع حول طموحه: «أنا عاوز أطلع ظابط، هيخلونى اطلع ظابط؟ حاجة من رابع المستحيلات، محامى ماشى، لكن ظابط لأ»، لا يوجد ضابط واحد سواء فى القوات المسلحة أو الشرطة من أبناء سيناء، وذلك لاعتبارات تتعلق بالأمن القومى -على حد قوله- قبل أن يذكر بطولات أجداده وآبائه فى إنقاذ الجنود المصريين فى حرب أكتوبر، وتوفير مكان آمن لهم فى الجبال التى لا يعرفها سواهم «عرّضوا حياتهم للخطر، وفى النهاية إحنا اللى بنحصد البطالة والإهمال».
داخل بطون الجبال أساطير مدفونة، لا يعرفها سوى العائش بين جنباتها، أو الذى كان يعيش وعاد ليروى تجربته.. «ستنا الغورة» إحدى هذه الأساطير، يتحدث عنها «حميد» بجدية دون أى استهتار أو سخرية «دى حقيقية وموجودة».. سيدة فى ردائها البدوى القديم ذى اللون الأسود، تضع على وجهها بُرقعاً يخفى وجهها، يحوى خرزاً لامعاً، يُصدر صوتاً حفيفاً يتردد صداه فى المكان الفسيح، لا تخرج «ستنا الغورة» إلا لشخص وحيد فى الجبال، إذا كان تائهاً تدله صوب الطريق الصحيح، وإن كان جائعاً تقدم له الطعام، وإن كان عطشاناً تُعطيه قليلاً من الماء. يقول «حميد»: «الموضوع مش أسطورة.. طلعت لاتنين من زمايلى قبل كده».
الهدوء القاتم فى جنوب سيناء، دعا بعضاً من الجهاديين والتكفيريين ممن ينفذون العمليات الإرهابية فى الشمال، إلى التسلل خلسة عن طريق الجبال ووديانها صوب الجنوب. يستبعد «أحمد» حدوث ذلك، لعدة أسباب، لعل من أهمها طبيعة الأماكن البدوية التى تقطن فيها بعض الأسر، لا يمكن لشخص المرور عبر هذه الجبال، إلا حينما يمر عليهم أولاً: «وهما مش هيسمحوا بمرورهم أبداً»، يُشدد الشاب العشرينى على كلماته، فيما يختلف معه «حميد» فى الرأى، فمن المحتمل أن تهرب هذه العناصر عبر وديان فى الجبال غير مأهولة بأى سكان، كل بدوى يعيش فى الجبل لا بد أن يعمل حساباً للحيوان الذى يعيش بجواره، هكذا جرت العادة فى القِدم ويسير على نهجها الآباء.. وضع «حميد» تركيزه على إشعال الحطب، دقائق انتظار تحويل الحطب إلى جمر، استغرقها الجالسون على السجاد المصنوع من جلد الأغنام، يتحاكون فيها عن الصيد ومتعته، طعام البدو فى الجبل يختلف اختلافاً جماً عن طعام سكان المحروسة جمعاء، الثعلب مثالاً، يؤكل فى الجبال، تخلل «حميد» الحديث، يحكى قصة «الثعلب»، يتم اصطياده، ثم سلخ جلده عن عظامه، وبعدها يؤتى بمطرقة حديدية، ينهالون بها بقوة على لحمه حتى يتم تحطيم عظامه فتضحى هشة ناعمة، يوضع الثعلب كاملاً فى إناء مملوء بالمياه الساخنة، يتم الانتظار حتى ترتفع طبقة سمنية اللون على سطح الإناء، بعدها يتم إخراج الثعلب من الإناء، ويقتنص الصياد تلك الطبقة، يحفظها فى إناء زجاجى، يُضيف إليها قليلاً من عسل النحل الجبلى، ثم تؤخذ كمقوى عام لجميع أعضاء الجسد بمقدار ملعقة صغيرة بشكل يومى.
يعشق أهل سيناء الحيوانات الجبلية، لأنها لا تشرب ماءً وتمتص عُصارات الأعشاب التى تتناولها، وهى بالنسبة لهم فى المقام الأول، مقوى جنسى يُغنى عن أى عقارات طبية.
لأن جبال جنوب سيناء تمتاز بارتفاعها الشاهق، وطرقها الوعرة، والكهوف التى أضحت أسراراً تبتلعها الجبال يحفظها خُبراء الدروب ويتيهُ فيها الغرباء، صارت كنزاً وملاذاً للهاربين، خصوصاً مع وضع أغلب النصب الأمنى صوب الشمال، بحسب د.طه صقر أستاذ الجغرافيا بجامعة عين شمس فإن هناك طريقاً ممهداً عبارة عن وادٍ مُبسط، تستطيع السيارة أن تمرق فيه، يبدأ من جبال العريش، مروراً جنوباً صوب وادى البروك، نهاية بوادى العريش -الذى يبعد عن جبل بعلق مسافة 94 كم- تتخللها منابع للمياه يمكن السير فيها بحرية وبأحمال ثقيلة، حيث تتميز طبيعة هذه المنطقة بأنها من الأودية الجافة، فلا تعلق فى رمالها سيارة، ولا يتعقبها أحد، نظراً لعدم وجود سكان بها، لم تنتهِ رحلة الهارب من الشمال إلى الجنوب، فقد بدأت للتو، خريطة الهارب، تبدأ عند وادى العريش، ومن هناك أمامه طريقان إما الجنوب الشرقى، حيث جبال الجرانيت الضخمة فى وادى وتير القريب من خليج العقبة، أو الجنوب الغربى مروراً بأودية «فيران، وردان وسدرى»، التى تطل على خليج السويس.. يُضيف باحث الجغرافيا إلى طبيعة المنطقة بداية من وادى العريش وحتى الاستقرار فى الجنوب خلف الجبال، التى تمتاز بأنها وعرة، وبها منحدرات صعبة وشديدة الخطورة: «المسافة دى كلها لا بد أن تكون سيراً على الأقدام»، غير أنه يستبعد احتمال سهولة القبض على هذه العناصر، بسبب الأودية المتعددة الموجودة هناك، والتى يمكن سلوكها، خصوصاً فى هضبة «التيه» التى تمتاز بطرق لم يعرفها بشر من قبل، تحوى حيوانات مفترسة أوشكت على الانقراض كالوعل الجبلى.
يتحدث «حميد» بعد أن حوّل «تكويعته» إلى «تعسيلة» بعد تناوله للطعام: «الاتحاد الأوروبى فى مرة وزع 62 مليون يورو على مشايخ البدو، من أجل تنمية سيناء وعمل مشاريع تجمع الشباب العاطل.. لكن الفلوس دى ماشوفناش منها مليم واحد»، يجذب «أحمد» أطراف الحديث «فى عهد مبارك كان فيه راجل شغال على حفار فى الجبل تبع شركة المنجنيز.. ولما كان بيحفر، لقى معبدآثار، الراجل لأنه غلبان بلّغ القسم باللى حصل.. مفيش يوم واحد وجت طيارة هليكوبتر كان فيها علاء مبارك.. خد كل التحف ومشى».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.