علي طول الطريق من شرم إلي سانت كاترين تنتشر الكمائن الأمنية، وتدقق في البطاقات الشخصية للغرباء عن المنطقة، بعكس الطريق إذا قطعته بعرض سيناء لزيارة بيوت البدو ومزارعهم ماراً بمدقات وعرة وخادعة تحتاج إلي جني ليحفظها ويكون علي علم باختبارات الذكاء المتكررة طوال هذا الطريق بين الرمال وأقزام الهضاب، المفارقة ذكرتني بصديق اصطحب زوجته لزيارة من هذا النوع وهناك فقدت الزوجة خاتم الزواج باهظ الثمن، ذهب بعدها الزوج إلي قسم الشرطة الموجود في المدينة ليحرر بلاغاً طالباً من مأمور القسم أن يعيد إليه خاتماً هو ثروة في حد ذاته، فقال له المأمور «إذا كنا مش عارفين ندخل نجيب بني آدمين من جوه..عايزنا نجيبلك خاتم؟». طلبت من المرافق أن يؤمن لي مشاهدة ماتش الزمالك وسموحة في المكان الذي سنزوره، فقال لي: لا تقلق، عندها فقط شعرت بالقلق وعندما وصلنا إلي مزرعة الشيخ جميل كان المكان ساحرا لكن بلا كهرباء، طلب منا الشيخ جميل أن نتوجه إلي منزل شقيقه علي بعد نصف ساعة لنشاهد الماتش عنده «بس عدوا عليه في المزرعة الأول»، مررنا بالشيخ عامر الذي قال «بس مافيش ماتشات للزمالك النهاردة»، أكدت له المعلومة، فقال «صدقني مافيش..الزمالك كان بيلعب من يومين... حتي بالأمارة اتعادل مع الجونة»، مداخلة الشيخ عامر ألجمت لساني فلا مجال للهرب من المعايرة بضياع النقاط حتي في قلب الصحراء. أخرج لنا الشيخ عامر الشاشة الديجيتال في حوش المنزل المطل علي الجبال ووضعها فوق طشت نحاسي وفرش لنا أكثر من كليم، كان أجمل مكان شاهدت فيه مباراة في حياتي، عدنا إلي كرمة الشيخ جميل بعدها لنقضي الليلة نتحدث عن مزرعة الأعشاب التي يفد إليها كل فترة علماء مراكز البحوث للاستفادة من كنوز الطبيعة العلاجية، قال لنا الشيخ جميل: تعلمنا من أجدادنا أن نسير في الصحراء خلف الأغنام والجمال نحصد الأعشاب التي يأكلون منها ونبتعد عن تلك التي يتجنبونها، فهم يتجنبون بالفطرة الأعشاب السامة أو المخدرة، أعشاب «السكران» كانت مصدر ثراء للبدو في الزمن البعيد لأنها كانت المخدر المعتمد طبياً قبل ظهور البنج، أعشاب «المسياسة» عالجت كل آبائنا وجدودنا من السكر، أذكر شخصاً أحضره أهله إلي جدي كان يعاني شللاً في أطرافه بعد أن زاروا به كل الأطباء، كان الجد لا يعرف دواء لحالة الرجل فطلب منهم أن يتركوه أسبوعاً في ضيافته والشفاء من عند الله، بعد طول تفكير أحضر الجد أحد الخرفان وذبحه ثم أحضر «كرشته» ووضعها في إناء كبير فوق الحطب وتركها تغلي، كان مغلي الكرشة أخضر اللون، وكان الجد يقدم منه لضيفه ثم يقوم بإضافة الماء لها من جديد وهي مستمرة فوق الحطب المشتعل، في نهاية الأسبوع كان المريض يقف علي باب الخيمة في استقبال أهله وهو يستند إلي عصا، فرح الأهل وسألوا الجد عن السر فقال: في أمعاء الخروف خلاصة كل أعشاب المكان.. في أحد هذه الأعشاب كان دواء المريض لكن أقسم بالله لا أعرف أي عشب منها بالضبط هو الذي عالجه. حكي لنا الشيخ جميل أن الاختلاط بالحضر أفسد بعضاً من حياة البدو، وقال: في اللحظة التي قرر فيها بدوي ما منذ زمن أن يضع السيراميك في أرضية منزله بدأ منحني تميزنا في الهبوط، كنا في عزلة محببة إلي النفس قبل 67، كانت سيناء كلها محافظة واحدة يقع الكيان الإداري لها في العريش، وكانت شرم الشيخ صحراء وكنا نغير مكان إقامتنا كل ثلاثة أشهر، أن تترك أرضاً ما ليأخذ كل ما فيها دورته الطبيعية لمدة تسعة أشهر فهذا يعني خيراً كثيراً، ففي هذه الفترة تنمو الحشائش والأعشاب علي مهل وتتجدد التربة وتفيض عيون الآبار من جديد، فكانت حياتنا رغدة. أهدانا الشيخ جميل في النهاية تشكيلة من أعشاب البر (ابنة مزارع الطبيعة) ومازالت رائحتها تعبق المنزل حتي هذه اللحظة، بعض «الحبق» الذي يمنح طعم كوب الشاي أبعاداً جديدة، وبعض «الروزماريا» التي يبعد كوب منها عنك الأرق ويجلب لك أحلاماً سعيدة، وبعض «المرمارية» التي تجعل المعدة قادرة علي هضم فردة حذاء أديداس. بعد ثلاثة أيام في هذا المكان شعرت بتغيير ما بداخلي، خلطة من الهدوء النفسي والرغبة في التسامح مع آلامك واضطراباتك النفسية، كان طريق العودة مليئاً بالشرود والصمت وتأمل أفكار تتبدل بداخلك، أوقفنا كمين ودقق أمين الشرطة النظر إليَّ ثم قال لي «أنا حاسس إني أعرفك.. حضرتك بتطلع في التليفزيون؟» قلت له: نعم، فقال لي «طيب ممكن نتشرف بالاسم؟»، كان شريط الرحلة يمر أمام عينيَّ سريعاً قبل أن أبتسم له بثقة قائلا: «حمدي قنديل».