هذه رسالة محبة وإعزاز، وليست وداعاً، لأحمد فؤاد نجم شاعر العامية المصرية المتألق، والمتمرد دوماً. فإن كان أحمد فؤاد نجم قد رحل عن دنيانا الفانية فلقد ترك لنا كنزاً من الإبداع نادر المثال، لا سيما بمضمونه الإنسانى بالغ الثراء والمفعم بالتوق إلى التحرر والعدل، مما جعل إبداع الشاعر الفطحل يتجاوز حدود مصر إلى عموم الوطن العربى وباقى العالم المحب للفنون وللحرية. ولهذا فقد كان رحيله المفاجئ درامياً كما كان فاجعاً، بالتأكيد بالنسبة لى شخصياً. وقد لا يعلم كثيرون أن أحمد فؤاد نجم، ابن قرية كفر أبونجم بمركز أبوحماد محافظة الشرقية، كان على موعد ليتلقى الجائزة الكبرى من واحد من مانحى أهم الجوائز الثقافية الدولية، مؤسسة «الأمير كلاوس» الهولندية، فى القصر الملكى بأمستردام بعد ظهر يوم 11 ديسمبر، أى بالضبط بعد سبعة أيام من رحيله. وعندما تلقيت الدعوة لهذا الحدث السنوى منذ حوالى شهر، تمنيت لو أن أشهده. ولأول مرة تصدر الدعوة لهذا الحدث الثقافى المهم واسم أحمد فؤاد نجم بالعربية يتصدر بالحرف الضخم صفحتى وسطها، ويحيط بهما، بالعربية أيضاً، نص رائعته «الخط ده خطى» التى يقول فيها: «لاكتب على عينى- يحرم عليكى النوم، واحبس ضيا عينى- بدموعى طول اليوم، قبل الوفا بدينى- زى الصلا والصوم، ده الدين فى عرف الحر- هم ومذلة ومر، وهموم تجيب وتجر- أحزان مخبيّة.. الخط ده خطى- والكلمة دى لى». أعتبر «نجم» سلطان شعر العامية المصرية بلا منازع، فظنى أن لا أحد منذ بيرم التونسى قد استطاع الغوص فى محيطات العامية المصرية وجلب لنا منها كنوزاً أشبه بالجواهر الفنية المبهرة فى فنون البلاغة والفصاحة أكثر من أحمد فؤاد نجم. وبالإضافة إلى ذلك، فإن أحمد فؤاد نجم كان، وتأكيداً سيظل، صوت الكادحين المصريين، ملح الأرض، وضمير مصر الوطنى. فظنى أن سلسال إبداع «نجم» يمثل أفضل توثيق للتاريخ الاجتماعى والسياسى لمصر من منطلق تحررى وإنسانى فى قالب فنى محبب، أسهم فى تقديمه والتأسيس لمحبته رفيق دربه الراحل الشيخ إمام عيسى بألحانه الآسرة التى تضاهى موسيقى سيد درويش أصالة وعذوبة وأثراً فى السامعين. ولكن لنختصر الكلام عن النجم الذى خبا كالشهاب، ونترك باقى المقال لأحمد فؤاد نجم نفسه. فى تعبير واضح عن نسبه بين الشعراء، يُهدى أحمد فؤاد نجم، مجلد أعماله الكاملة إلى: «أحمد بن عروس، وعبدالله النديم، ومحمود بيرم التونسى.. شعراء الشعب الخالدين». وتحت عنوان «الشعر حرية»، يقدّم «نجم» المجلد نفسه بالعبارات التالية: «آه من الشعر.. هذا الكائن الساحر الخلاب.. منحة الموهبة الجزيلة وامتحان الحياة الصعب الواعر! بيتهيألى أنا سمعت الكلام ده قبل كده أو قريته.. لكن إمتى وفين ومين وليه؟ الله أعلم.. هو أنا يعنى عقلى دفتر؟ إنما الشهادة لله الكلام ده كلام واحد عاشق خدله رمش عين رشق فى صميم قلبه جاب رجليه فوق راسه زرع بصل، كما حدث للعبد الفقير المطيور، كاتب هذه السطور.. وأنا فى الأصل عاشق تراب بلدى، ومتمعشق فى ناس بلدى مصر المحروسة، ومتواعد مع الحلم الإنسانى هنا على شط بحر البحور وسيد الأنهار النيل الخالد العظيم، وباطلب من الله ولا يكتر على الله، إنه يمد فى عمرى كمان فترة زى رؤساء الجمهورية تبعنا لحد ما أشوف بعينى مصر الخضرا بتغنى للحب والزرع والحصاد، والعالم كله بيسمع ويقول: كمان يا ست كمان.. فى عشق مصر المحروسة- حبة عين العرب ونبض قلبهم الحى- كتبت هذه القصايد، وفى عشق مصر حضنت كل القصايد وقدمتها للناس، وكان التمن مزيد من العشق والجنون، وصدق اللى قال: المجانين.. فى نعيم، والشعر حرية» وقد حقق الله أمنيته بقيام الثورة الشعبية العظيمة فى نهايات عام 2010. وليس أفضل من تخصيص باقى الإطار لمقتطفات خاطفة من شعره تدل على عظم موهبته وثراء إنتاجه الغزير كما نفسه التحررى العروبى الدافق (المصدر: أحمد فؤاد نجم، الأعمال الكاملة، دار الأحمدى للنشر، القاهرة، 2002). «مصر يامه يا بهية، يام طرحة وجلابية، الزمن شاب وانتى شابة، هو رايح وانتى جاية». «دور يا كلام على كيفك دور، خلى بالنا تعوم فى النور، ارمى الكلمة فى بطن الضلمة، تحبل سالمة وتولد نور، يكشف عيبنا ويلهلبنا، لسعة فى لسعة، نهب نثور». «طعن الخناجر ولا حكم الخسيس فيا، سألت شيخ الطريقة، ما رضيش يجاوب سؤالى، ودارى على الحقيقة، وفاتنى حاير فى حالى، وسألت شيخ الأطبا، دوا الجرح اللى بيا، نظر لى نظرة محبة وقال دوايا بإيديه». «يا فلسطينية، والبندقانى رماكو، بالصهيونية، تقتل حمامكو فى حماكو، يا فلسطينية، وأنا بدى أسافر حداكو، نارى فى إيديه، وإيديه تنزل معاكو، على راس الحية، وتموت شريعة هولاكو». «يا عرب، يا عرب، يا عرب فى أى مصر، اسمعوا صوت شعب مصر، احفظوا لمصر المكان، واحنا على العهد اللى كان، مصر أوفى من الزمان، وانتوا عارفين شعب مصر.. يطول الليل زى كيفه، الصباح له ألف باب، واحنا بوصلتنا الفصل ادينا، ما تخافوش من الليل علينا، مهما غبتوا عن عينينا، انتوا جوة فى قلب مصر، يا عرب، يا أهل مصر.. والبيان له معاد، والمعاد حيكون فى مصر». وهل من بعث للنضال واستنبات للأمل، وتبشير بالحرية والعدل وبالنهضة فى الوطن العربى مرتكزة على مصر، يتفوق على إبداع «نجم»؟ لا أظن.