نحن نخاطب الخالق، جل شأنه، كما يخاطب بعضنا بعضاً قولاً وفعلاً، أو نتجاهله، سبحانه، ونحاول نسيانه أو الاحتيال عليه بآدميتنا القاصرة ووعينا وعقولنا ومكرنا وعواطفنا وميولنا.. نفعل ذلك فى حدود الزمان والمكان والأعمار والغيوب والمقادير والاحتمالات، عابدين أو شاكرين أو منصورين أو مقهورين، عاجزين ضائعين، أو جاحدين منافقين محتالين!!.. لا يمكننا أبداً أن نتجاوز هذه الحدود بقيودها وعيوبها واحتمالاتها وماضيها وحاضرها ومستقبلها، ونحن نعلم أن المخاطب لا يخاطب إلاّ بما يناسبه هو، وبشىء مشترك فيما بين المخاطَب والمخاطِب.. وهذا الخطاب المشترك هو صلات المخلوقات بخالقها الذى أرادت حكمته، جل شأنه، خلق اختياراتنا كبشر، ووعده ومغفرته.. وهذا الوعد وعده هو عز وجل.. تلقّاه ويتلقّاه الآدميون كل حسب وعيه وإدراكه وأطوارهما فى زمانهما ومكانهما! لن يُفلح الآدمى إن ساير أناه وأنانيته فى تسلطه على تسخير خدمات عقل العاقل له، أو فى حماية ما حصر نفسه فيما جمعه على الأرض. لا فلاح إلاّ بإحلال العقل فى مسيرة البشر إذا أحسنوا الأداء فى ارتياد الفضاء الهائل بأجرامه وأنجمه وكواكبه وأقماره وتوابعه، وأيقنوا ضآلة ما يتصارعون عليه من منافع أرضية مع كثرة الحيل وتفشّى الأنانيات التى شملت العالم والجاهل فى كل مكان! نجاح الآدمى فى التوجيه والإرشاد دائماً محدود، لأنه إنما يرفع جانباً من النقص وتبقى منه جوانب عليه الصبر عليها، ولأن الاستسلام لها يزرع فى صفحة الناس أنها مباحة أبداً وأن اتباعها صواب دائماً. وهذه المحدودية الضريرة قد عاقت مصدقاتنا الاعتقادية عن التطور مع تطورنا الفكرى، فبدت لنا مخالفة قليلاً أو كثيراً لما تعلمناه ونتعلمه من المعارف والعلوم الوضعية والإنسانية، وزادت عقولنا ومصدقاتنا انقساماً وتناقضاً، وربما تسببت فيما نشعر به جميعاً الآن من الاستعداد السريع للقلق والتقلب! نفاد الصبر وانتهاؤه أو الزراية به آية حمق وطيش لا يُقبل عليها ولا يهش لها إلاّ أرعن طائش أحمق مخرّب! البشر عاشوا ويعيشون الحياة نتفاً متفرقة منعزلة منتقاة من ذاكرة لا تجمع الحياة ككل.. فلا توجد بالذاكرة صورة جامعة للحياة تتكامل أحداثها وتأخذ كل منها مكانها، بعضها من بعض، من بدايتها إلى آخر لحظة وعى فيها!.. لا يحدث ذلك إلاّ فى نادر النادر من الأفراد، إذ يلهو غالبيتهم عن الالتفات لتلك الرؤية الواعية الشاملة بسبب انشغالهم الدائم بالأحداث والتوافه اليومية التى تتوالى على كل منهم، ويحل بعضها محل بعض بغير انقطاع دون أن يترك فى الذاكرة أثراً فعالاً إلاّ فى القليل، ولذلك لا يوجد لدى أىّ منا، فى الغالب الأغلب، صورة تامة لحياته حالياً وماضياً، بل تتوالى صورها الغائمة الغامضة فى وعيه وذاكرته ما عاش.. هذه الصور مختلفة بفكرته الغائمة الغامضة لذاته التى لا يستطيع صاحبها أن يجمع شملها لنفسه أو لغيره بعبارات تفصيلية دقيقة قابلة للحكم لها أو عليها.. وبسبب ذلك الغموض والتشتت والتفتت ربما قد تعرّض سواد البشر لما هم عليه من الاندفاعات، وهان عليهم الخداع والانخداع، ووجدت أنانيتهم طريقها الممهد للسيطرة على سلوك كل منهم فى كل فرصة سنحت لذلك. الأديان تنشأ وتنتشر بتحريك عواطف الناس وتحريك عقولهم إلى مُثل معينة، فإذا استغنت الأديان بقوة الدفع والاستمرار عن تحريك العواطف والعقول نحو هذه المثل العليا، صارت سياسة وليست ديناً.. لا تعتنى بالدين ومُثله ومعانيه، وإنما تعتنى بما تريده وتتغيّاه.. وهى، وإن كانت سياسة وقبلتها وغرضها سياسى، إلاّ أن سداد فواتيرها يأتى فى هذه الحالة على حساب الدين نفسه! نحن باستمرار نتجاهل حماقاتنا، وهى بالبلايين فى كل آن، لأن كلاً منا بفطرته ملتصق التصاقاً تاماً بذاته لا يفارقها إلى أن يموت.. ومنا من استطاع أن يخفف من هذا الالتصاق إفساحاً لمجال إنسانيته وفهمه وخطئه، وهؤلاء ما زالوا حتى الآن قليلين! لأن حضارتنا الحالية تعيش اقتصادياً وسياسياً على ترضية واجتذاب ذات الآدمى أى آدمى.. لا تبالى كثيراً أو قليلاً بإنسانيته وفهمه وفطنته.. ونحن حين نشكو ونتوجع ونغضب ونثور ننسى على الدوام أن مصدر ذلك وميدانه هو حماقاتنا نحن التى لا حدود لها والتصاق كل منا بذاته، التى لم ينجح فى السيطرة عليها وترويضها!! عبر آلاف السنين لم يدرك البشر، فى تفضيلهم للأنانيات، أن الامتثال للعقل ويقظته، الذى لم نبالِ باحترامه واتباعه، هو ملاذ الإنسان فى مفارقة التفاته وانحصاره الأحمق فى أناه مع أنانيته، وأن فيه وبه مستقبله كأساس نهائى ولازم لبقائه فى هذا الكون الذاخر الفاخر الحافل بخيرات تكفى وتزيد بأضعاف ما انحصر فيه الآدميون على المسكونة الأرضية. معظم ما يعانى منه الناس فى زماننا من التهابات واحتقانات، يرجع إلى ضيق الصدر وقلة الصبر، وهما مختلفان وإن صبّا فى مصب واحد يؤدى إلى ضيق النظر وجمود الفكر وتصلب الرأى! التأثير الهائل لحواسنا على جميع إدراكاتنا ومعارفنا وعلومنا ومصدقاتنا فى تخلفها وتقدمها، فى أى زمان وأى مكان كائناً ما كان ما فيها من الدقة والتأكد، هذا التأثير الهائل قد جعل رؤيتنا وتأكدنا نسبيين دائماً، ذلك لأنه يحتوى على مساحات من الغيوب تضيق حيناً وتتسع أحياناً، ولذلك تشمل ذاكرة الآدمى صوراً حسية لماضيه الذى انقضى، ولحاضره الماثل، ولغده الذى لم يأتِ بعد، والذى يدفعه عزمه إلى تحقيقه أو رجاؤه أو أمله أو طمعه، كما تشمل صوراً حسية لصعوباته ومخاوفه وأزماته ومآسيه، ماضية كانت أو حاضرة، أو مستقبلة يتوقع أو يخشى نزولها به على نحو أو آخر مما يتخيله! ليس بغريب على الآدمى، وقد أهمل العناية بداخله والصيانة لحياته، أن يعبّر عن افتقاره الداخلى وعدم مبالاته به بالتهالك على تصيُّد المحسوسات وإعلان الاهتمام بالأموال والأملاك والمتع والشهوات والملاهى والرياضات والسياحات والأسفار!. وبالتهالك على التكدس والتجمع فى المساكن والطرق والميادين ووسائل النقل والمصالح والمدارس والمستشفيات والمجمعات والنوادى والأعراس والمآتم.. إذ نضبت لدينا قوة الإحساس لدى الآدمى بفرديته واعتزازه بذاته، ولجأنا إلى اللياذ بالتقارب والالتصاق ابتغاء الائتناس الفطرى والشعور بقدر من الأمان والإمكان! جميع ما نسميه بيننا تلقائياً أو تقليداً فى دنيانا، مجادلات بشرية ومتتابعات ومجرد اعتقادات رضيها كل منا قديماً أو حديثاً. تركها بعده من ذهب أو استبدلها من غيّر وبدّل وما زال حياً يُرزق.. إذ كل آدمى حىّ يظن دائماً أنه قلما يتغير أو يتخلى عن ثباته بينما هو فى الحق يتغير باستمرار فى مسائه عن صبحه كل يوم دون أن يدرى.. لأن الأنا لدى كل آدمى، تخفى شعوره المستمر المتوالى منذ ميلاده حياً إلى انقضاء عمره الدنيوى الذى امتد إلى الطفولة ثم الصبا ثم ما تلا ذلك من مراحل الحياة البشرية التى تنتهى إلى النهاية بالموت الحتمى الذى ليس منه مفر.. بين هذه وتلك مسافة زمنية امتدت ما بين الميلاد الحى إلى نهاية العمر المكتوب لهذا الحىّ. مهما تعمّق أهل الدنيا، فإنهم لا يأخذون الآخرة إلاّ على الرمز والمجاز، ولذلك فمزج حياة أهل الدنيا بالآخرة غير واضح قط لأهل الدنيا.. لأنه بالنسبة لهم ما عاشوا، دائماً مختلط بدنياهم المكونة من التبسيط والتعقيد والواقع والخيال والإحساس والتصور واليوم والغد والأمس والماضى البعيد.. كل أولئك متداخل بعضه فى بعض دون تمييز واضح للآدمى لما يسميه الحياة التى عاشها ويعيشها وسيعيشها بقدر ما نعرفها حتى الآن. إياك والغفلة عمن جعل لحياتك أجلاً، ولأيامك وأنفاسك أمداً، ولكل ما سواه حاجة لك منه! إذا كانت لذّة كل فرد هى على حسب قدره وهمّته وشرف نفسه، فإن أشرف الناس نفساً وأعلاهم همّة وأرفعهم قدراً، من وجد لذّته فى معرفة الله ومحبته والتزام طاعته والتقرب إليه بما يحبّه سبحانه ويرضاه.