الصلاة في الأديان السماوية, إيمان وذكر وإخبات وتبتل وخشوع.. يقول عز وجل: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري( طه14).. هي صفة من صفات المؤمنين. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدي للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون( البقرة3,2) وبها أمر المؤمنون ونبهوا إلي أن الخشوع مهجتها وسبيلها: واستعينوا بالصبر والصلاة وانها لكبيرة إلا علي الخاشعين( البقرة45).. بشر المؤمنون بالفلاح لخشوعهم في الصلاة فجاء في الذكر الحكيم: قد أفلح المؤمنون* الذين هم في صلاتهم خاشعون( المؤمنون2,1).. الصلاة ذكر وتبتل وإخبات وخشوع.. هذا الخشوع هو لب الذكر ولب الصلاة.. ففي سورة الحديد: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق( الحديد16).. فالصلاة خطاب ذاكر مخبت خاشع ضارع إلي الله تعالي, يتجه بكله اليه, ولايستعين إلا به.. متوكلا عليه مطمئنا إلي يومه وغده ورزقه: وفي السماء رزقكم وماتوعدون( الذاريات22).. والله تبارك وتعالي هو الرزاق: إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين( الذاريات58).. وفي سورة هود: وما من دابة في الأرض إلا علي الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين( هود6).. وتعددت الآيات في بسط الرزق وتقديره الي الله تعالي, فقال سبحانه في كتابه العزيز: وكأين من دابة لاتحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم( العنكبوت60).. الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شئ عليم( العنكبوت62).. فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون.( العنكبوت17).. المؤمن قنوع يجمل في الطلب ويعلم من دينه أن نفسا لن تموت إلا وتستوفي رزقها وأن أبطأ.. يدرك المؤمن أن العمل عبادة, وأن عمله وجهده هو واجبه, وأن رزقه بعد ذلك علي الله.. ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا* إلا أن يشاء الله وإذكر ربك إذا نسيت وقل عسي أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا( الكهف24,23).. وهو يؤمن بأنه وقد بذل ماعليه, وتوكل علي ربه, فإنه لايخشي حاجة ولا إملاقا.. ولاتقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم( الإسراء31).. هذه المعاني هي الصلاة الذاكرة الخاشعة الضارعة الي الله مملوءة بنفحات الإيمان التي يطمئن بها المؤمن علي يومه وغده.. لايحمل في قلبه غلا ولاضغنا, مهجته وصية الرحيم الغفور: وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم( النور22). وفي انجيل متي الاصحاح السادس(9 13): ليتقدس اسمك! ليأت ملكوتك! لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك علي الأرض! خبزنا كفافنا.. أعطنا اليوم وأغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن للمذنبين إلينا, ولاتدخلنا في تجربة, ولكن نجنا من الشرير.. هذه العبارات صلاة يخاطب بها المخلوق خالقه يدعوه أولا أن يسود سلطانه هنا وأن يتبع الناس هذه علي الأرض.. كما يتبعه أهل السماء, وأن يقنع الناس بخبز اليوم فقط, وأن يغفر الله ذنوبهم كما يغفرون هم ذنوب من يسئ إليهم, وألايمتحنهم لأنهم أضعف من امتحان وتجربته لهم. صلاة فيها تسليم شديد للخالق وشوق أكثر شدة للاستقامة ونفور يبلغ حد التبرؤ من التطاول والكبر, واكتفاء بأدني حد ضروري ليعيش المخلوق يومه في سلام.. علما بأن ما جاوز ذلك الحد الضروري محنة يمتحنه بها الخالق وهو يسأله أن يجنبه إياها ومايصحبها من المحن.. هذه المحن التي لا حد لها التي تأتي حين يلتفت المخلوق إلي إمتاع ذاته والاستجابة إلي مايرضيها بالسعي لكفالة غدها وضمان مستقبلها علي حساب الآخرين!.. وهو ما اعتاد الناس عليه منذ أدم وأوغلوا فيه وتقاتلوا عليه وأفني بعضهم بعضا من أجله وباتت عبادة الذات سائدة في كل عصر وجماعة ولايقهرها إلا العقوبة العاجلة أو الخوف البالغ من التعجيل بها! ولا عجب فالذات حاضرة لاصقة قريبة في وعي الآدمي ونومه.. وفي طفولته وشيخوخته.. ولعبه وجده.. وصحته ومرضه.. وسلمه وحربه.. ودينه ودنياه لاتفارقه إلا إذا فارق حياته.. فالصلاة صلاة إذا اخلص الآدمي في الاتجاه بها إلي الخالق عز وجل وانتوي بها طالب المعونة من الله, ورضي لذاته بالحد الادني لطعام يومه فقط رضاء قويا عميقا لامداهنة فيه ولا افتعال, ونفض كل ما نسميه مطالب المنزلة والكرامة والمكانة الدائرة حول الذات.. إذا كان ذلك أمكنه أن يرفع رأسه حقيقة إلي السماء ويقلب عينيه في الوجود الباهر, وأن يتعامل تعاملا عاقلا فاهما.. مع الكون.. لأن تيار المعاني الكونية عندئذ يتخلل من كل اتجاه ويزداد تخلله له باطراد لايفتر ولاينقطع. ربما كانت هذه هي حالة الأنبياء والقديسين في كل دين وعصر ومجتمع.. ولكن يستحيل أن تصبح في أي مستقبل معقول حال الناس أو حال العلماء أو حال الفضلاء أو الصالحين. لأننا لانقوي علي الإيمان العميق بالخالق لأكثر من ثانية.. مرة في الأسبوع أو كل مرة في الشهر أو كل مرة في السنة.. ومعظمنا لايقوي علي هذا الايمان مرة في العمر! إننا نفضل الألفاظ والعبارات فقط ونفضل عمومها وعدم اعتمادها علي موازين أو مقاييس باستعمال الناس لها.. صرنا نعتبر أنفسنا مسلمين أو نصاري أو يهودا أو بوذيين حسب البيئة التي ننتمي إليها بالميلاد في الأغلب الأعم, ونعتبر أنفسنا مؤمنين بالمعبود الذي تتعبده بيئتنا, ونردد أسماءه وصفاته وفق المألوف المعتاد في المناسبات التي جرت العادة بترديد أسمائه فيها تسليما من جانبنا لهذا الانتماء الذي تحيط بنا شواهده ولوازمه المادية والعاطفية والفكرية في كل أوقات صحونا ونومنا, فمعبودنا الفعلي يكاد يكون دائما هو مجتمعنا الذي نحن منه وإليه ابتداء وانتهاء.. وعبارت التنزيه أو التقديس المألوفة بيننا تعود فعلا وعملا لمجتمعنا لتحجب عنا في الخيال والوهم مايشهده كل منا من نواقصه وعيوبه وشروره.. ولتعيننا علي الرضاء بالعيش في إطاره والتعلق بالانتساب إليه والتوقد باستمرار غيرتنا علي بقائه فيه كائنا ماكان. هذا الالتصاق الغريزي بالمجتمع وراء تدين جماعات الناس بأديانها ومللها ونحلها وراء انتشار الأديان والملل والنحل في الجماعات البشرية, ووراء تباين الصور المختلفة التي يتخذها دين كان في الأصل دينا ذاتيا لجماعة واحدة بعينها في الجماعات المتباينة الاعراق والبيئات.. وهذا الالتصاق هو وراء تغير الدين بتغير المجتمع تغيرا أساسيا غير آماله القريبة والبعيدة علي السواء. وهو أيضا وراء انصراف المجتمع عن الدين وإهماله اياه وعدم مبالاته به نتيجة فقده الثقة في فائدته فقدا كليا عاما...وكل ذلك عليه أمثلة في تواريخ الشعوب والجماعات البشرية... ولا يذكرها أهل الاديان إبان تعلقهم بالدين او الملة..لانه تعلق غريزي كما قلنا يصعب مناقشة حال وجوده ويتعذر رد صاحبه عند خضوعه لسلطانه الي التذكر والتأمل والتعقل وما يبعد به الآدمي الفرد عن نفوذ جماعته.. فالتدين كظاهرة فردية في إنسان بعينه موهبة قد تكون قوية منذ الصغر, وقد تنمو مع نمو العقل والنفس والقدرة علي التأمل والمقارنة والنظر, وقد يزيد نموها الي حد الافاضة علي كل من يتصل بها.. وربما كان هذا هو الأصل في كل صور التدين الجماعي. [email protected] www.ragaiattia.com المزيد من مقالات رجائى عطية