لا يخطئ المتأمل في المخلوقات التي تملأ الكون من حولنا, أن الكائن الحي كيان لا نظير له في عالم الماديات.. ينمو من داخله ويتغذي من خارجه. ونموه تغير مستمر دائب.. وفي المقابل يعود هذا النمو فيرجع متقلصا في عكس الاتجاه, بتغيرات مستمرة متنوعة شكلا وموضوعا تمضي في إيقاع سريع أو متباطئ حتي لحظة الختام.. وهي الموت الذي ليس منه بد! تشهد ذلك في بذرة النبات, فمنها تنبت الشجيرة وتنمو إلي أوجها وتمتد فروعها وثمارها أو أزهارها وأوراقها في كل إتحاه, تلحقها الشيخوخة فتجف وتضمر وتعود فتدخل في الذبول والتخشب شيئا فشيئا ثم تسرع إلي نهايتها فتموت وتصير خشبة جافة تسقط وتتحلل بفعل الحشرات وعوامل التعرية! ويستحيل علي الشجرة أن تري نفسها علي أي نحو في البذرة التي نبتت ونمت منها, ولا في أي طور من أطوار ذلك النمو.. بالرغم من أنها أي شجرة أنتجت بلايين البذور المشابهة وذرتها حواليها أو أسلمتها للرياح تنشرها إلي مصيرها المجهول, إذعانا لمراد تلك القدرة التي أنشأتها. وقد نقول إنه ليس للشجرة وعي وليس لها ذاكرة, والواقع إنه لا جدوي للذاكرة بفرض وجودها, لأن مهمتها أن تحتفظ بصورة مشابهة تقريبية تساعد علي إنتفاع الكائن الحي لمواجهة ما يستجد أو ما يتوقع أو يخشي حصوله من الأحداث أو التطورات..وذلك كله يجد ما يكفي لمواجهته في تركيب الشجرة بغير طريق الذاكرة, مع حساب العمر أو الزمان المقدر لبقائها. ويجب أن نلتفت إلي أن ما يبدو لنا من إعجاز الكون, يرجع إلي أن تركيبه في نظرنا نحن بعيد إلي أعماق وأغوار يتعذر علينا تتبعها إلي نهاياتها أو بداياتها, وإن كان علي كل جيل من أجيالنا أن يجتهد في فهم أقصي ما يمكنه فهمه منها بأسلم وأدق ما يستطيعه من الوسائل الصالحة للإدراك والفهم البشري الذي لا يستطيع الوصول مهما حلق أو غاص أو جال خياله أو وهمه الي ما هو أزلي. وكما أن حياة الشجرة سلسلة متداخلة متصلة من الحيوات المختلفة شكلا وموضوعا, لا يلتفت لاحقها إلي سابقها ولا يتقيد به, إكتفاء بواقعه الحاضر الذي يحياه.. كذلك حياة كل آدمي حي, بفارق واحد, هو المثل والتقاليد والعادات الأخلاقية التي كونها وجمعها وتشبث بها خلال عمره الذي يذكره ويرتبط بحاضره ويلازمه. وبهذا التكوين والاعتياد الأخلاقي وبالتشبث به الذي يستمر خلال حياة الآدمي الراشد, تتماسك حيواته التي تتعاقب صعودا وهبوطا عليه, وتصير في يقينه هو وفي نظر من يخالطونه أو يتعاملون معه تصير حياة واحدة ثابتة المعالم خيرا وشرا, يرضي بها ويثق فيها صاحبها ولا يخطئ فهمها وتوقع ما يتوقعه منها الصديق أو العدو. فالوحدة التي نسندها لحياة الآدمي, هي أولا وأخيرا وحدة معنوية أخلاقية فيما نسميه ضمير الآدمي, وهي ليست فيسيولوجية ولا سيكولوجية ولا عقلية, وهي مبنية علي ما بلغه من العمق الأخلاقي ومقدار تشبثه بالالتزام به خلال بقائه حيا. وبدون هذا العمق والثبات عليه والتعلق به تبدو للعيان حيوات الآدمي واختلافها وعدم مبالاتها بالتضارب والتناقض, كما يبدو تصادم جديدها بقدميها وحاضرها بماضيها. هذا الشعور السطحي المفترض المعتاد بوحدة حياة كل منا, وبعدم تعددها رغم ازدحام الشواهد علي ذلك مصدره شعوره صادقا أو كاذبا بوحدة ما نسميه الضمير, وبناء علي إحساسه الفطري باختلاف ذاته عن غيره حتي عن أبويه وأولاده, وهو اختلاف يستحيل نسيانه, ولكن الإحساس به لا يحول في الواقع دون تعدد الحيوات في كل منا خلال نموه أو خلال ضموره وذبوله اندفاعا إلي الفناء.. لأن كلا من النمو والذبول عارض من عوارض نفس الذات وليس نفس الحياة التي في حاضرنا الذي يتحول باستمرار لماض إلي أن يرد عليه العدم! من هو الشيخ الذي يستطيع أن يستحضر ولا أقول يتذكر صورته ونوع حياته وهو في العشرينيات والثلاثينيات أو حتي في الأربعينيات والخمسينيات؟ استحضارا بصورة يتعرف بها علي صورته الفوتوغرافية إذ ذاك ويسندها الي ذاته, غير مصحوبة بأي شيء باق في رأسه من حياته إذ ذاك مشابهة لحياته الآن؟ والتاريخ أحداث منتقاة مرتبة ومنظمة في إطار فني, لكنها ليست إلا وقائع مقتطعة ذات قيمة لغاية من غايات الآدمي حفظتها الكتب والمدونات وحفظنا عنها بعض ما جاء فيها, حتي ما عشناه منها أو عاصرناه في حينه مما زال وحل محله في ذاكرتنا سواه, فلم نعد نحس معاصرته التي لازمت في السالف حياته فينا وحياتنا فيه. إننا نجنح بوقائع التاريخ المعاصر حتي ما حدث منها في أيامنا كمعلومات وأسانيد فكرية, من أجل خطة أو رأي أو سياسة, وليس كشهادة علي واقع حي حاضر نعيشه ونشهده ونشهد به أو عليه, ومرور الزمن يبعد ويباعد ويغير ويزيل كل ما حصل عليه الآدمي وشهده, ويحوله الي ذكريات ومحفوظات منتقاة وملخصة في الذاكرة المعرضة للضعف والنسيان, وهي تحفظها بعد أن تسربت منها الحدة الحية وفتر وتشابه وبهت وشحب وانطفأ ما كان يصحبها وقت حدوثها من يقظة العاطفة والشعور بما هو حي وحاضر. ولعل هذا مقصود في تركيب الأحياء كافة, وفي تركيب الآدمي بخاصة لتمكين نوعه من تعمير جانب من هذا الكون الهائل, بإتاحة المزيد من الفرص لتطوره وعيا وجسدا, وتوسيع الخبرات إلي أقصي حد, وبتسجيلها تسجيلا نافعا كافيا بأدوات ووسائل أكثر دواما وضبطا, وأقوي استيعابا وحفظا من ذاكرة الآدمي وحدها. هذا وقد اقتضي تنظيم حياة الأفراد في جماعات من الأسر والبطون والقبائل والطوائف والشعوب والأمم اقتضي الاعتراف لكل فرد بحياة واحدة لا تتغير.. تلازمه ملازمة اسمه وتلازمة في اسمه الجديد إذا بدله لكي تكون له أسرة أو جماعة أو دولة ينتمي إليها بالتوطن أو الجنسية. وقديما كان ذلك يتم بتعريف الغير بالميلاد أو الوفاة, بالإذاعة أو بالقيد في السجلات. وهذا التنظيم الذي لم تخل به جماعة متحضرة أو بدائية صاحبه من أقدم الأزمنة عرف مستحكم لم ينازع فيه أحد, بل يعامل الأدميون بعضهم بعضا علي أن لكل منهم حياته الباقية ما بقي في الدنيا منذ مولده إلي موته, بلا تفريق ولا تحليل ولا التفات في ذلك إلي التغيرات التي تبدأ وتستمر بلا توقف منذ تحرك الجنين في الرحم إلي رحيله وهو شيخ فان, وتظل هذه الوحدة قائمة في نظر الذات والغير مهما طرأ علي الآدمي من تغيير صعودا وهبوطا, شكلا وموضوعا. وبعض ذلك راجع الي دوام إحساس الآدمي بذاته ما عاش واختلافها عن ذوات الآخرين الذين يقابلونه بذلك, حتي أقرب الاقربين. ثم إنه قلما يكف الآدمي عن النظر إلي المستقبل والطمع في أن يكون له دور فيه, بحياة أوسع نشاطا وأكثر إشراقا وأحفل بالراحة والرضا, بل هو يتطلع الي شيء من ذلك بحسن ذكره بعد موته. ولذا نراه عادة يعاف أن يتخلف عمن يعيش بينهم حتي وإن كان أصغر سنا وأكثر شبابا, وربما يجتهد في أن تندمج حياته في حياتهم ما بقيت فيه عافية تسمح بذلك, ويقاوم في نفسه نوازع الفرار والعزلة خوفا من الاغتراب والإتنباذ وتعجيل رحيله! ومن أجل ذلك يسعي جادا إلي تجديد حياته, إما بحماقة كزواجه بشابة تصغره بسنوات طويلة, أو بالتزام العقل في هذا الشعي بإقامة مشروع أو مشاريع للبناء أو الاستصلاح, أو للتجارة والصناعة, في محاولة لفتح أبواب جديدة لنفسه علي مستقبل تتمدد فيه آماله ورغابه في الحياة ولا تتقلص, وقد يكون ذلك إنصاتا إلي صوت الحرص علي البقاء والسعي والحركة ومواجهة الغيب. لكن البدهي أن حياة الكائن الحي الآن هي حياته الحاضرة, التي يشعر بحضورها الآن, وليس في الماضي المنقضي, ولا في المستقبل الذي لم يوجد بعد.. هذا ولأن الحاضر ينسحب باستمرار بحدوث الجديد إلي ماض, فإن حياتنا الحاضرة تنسحب أيضا إلي ماض.. مفسحة مكانها لحياة أخري حاضرة دون أن نشعر بحدوث إطراد ذلك, إلي أن نخرج منها جميعها ونهائيا بالموت. وهنا يبدو الفارق بين حياة الكائن وبين وجود الكائن الشامل الذي قد لا يتأثر في نظرنا بالتغيرات التي لا ينقطع حدوثها فيه شكلا وموضوعا.. لأن وجوده فكرة مرتبطة ارتباطا لا يقبل الانفصام بالوعي بالذات. وهذا الوجود هو الذي يحمل عند الآدمي الاسم والعمر والحالة الاجتماعية والقرابة والدين والموت والإرث والوطن والجنسية والدنيا والآخرة. وهذا الوجود الشامل هو موضوع كتابة تواريخ الأشخاص أمواتا وأحياء, أو كتابة الشخص لسيرته الذاتية, بيانا لما مر به وأتاه في عمره بعد أن سلخ معظمه أو قدرا كبيرا منه. ونادرا جدا ما يتعرض التأليف أدبيا أو علميا لحياة الآدمي الحاضرة, لأنها فردية صرف دائمة التبدل والتغير. ثم إن الآدمي لا يفطن للجديد في حياته الحاضرة في حينه, بل دائما ما يجيء تقطنه إليه متأخرا.. لأن طبيعة الحياة في كل كائن حي مليئة بالإخفاء والمسارفة ومفاجأته بحيلها, لذلك يبدأ ما أمسك به وعيه يبدأ في الابتعاد والانسحاب من لحظة الوعي, تماما أو غير تام, ليحل غيره محله بمزاحمته ثم بإبعاده وتعرضه للنسيان والانقضاء بلا تردد بل بلا مبالاة!! لأن طبيعة الحياة لا تقدم لأي كائن حسابا!! إن الآدمي لا يتطلب حين يحاول استرجاع صور سابقة من حياته الماضية, فكيف تيصلب لصور يستحضرها هو لأخرين غيره مضت عليها مئات أو آلاف السنين؟!