حتى الآن لم تفقد الجماعات متحضرة أو غير متحضرة نوبات التعصب العقائدى. وهى نوبات مفاجئة يصعب تبريرها بأسباب حقيقية، لأن سببها حالات قلق تمر بها هذه الجماعة أو تلك.. تجد المتنفس لقلق العامة فى سهولة إثارة الغيرة وإساءة الظنون بأن هناك مخاطر تهدد العقيدة من جانب أعداء لها موهومين أو مزعومين!. وهذه النوبات تجىء متقطعة قد يفصل بين الواحدة والأخرى سنوات من السكون والانصراف إلى شئون الحياة بجدها ولهوها وهامشية عقائدها! لا يكاد التعصب العقائدى بين المسلمين يفترق فى طبيعته تلك عنه بين غير المسلمين من المسيحيين واليهود، فهو يثور بين آونة وأخرى لدى هؤلاء وأولاء مع شدة القلق الاجتماعى ويأس العامة من علاج أوضاعها الراهنة واتجاه أنظارها إلى الماضى البعيد، متوهمة أن حكم العقيدة كان سائداً فيه وحياة الناس كانت لذلك رخية.. ولأن هذا اليأس قد شمل النظم الدينية الرسمية فى البلاد المتحضرة إلى الحد الذى جعل الدولة تنفض يدها من أمرها، فإن هذا اليأس قد عبر عن نفسه فى انشقاق المذاهب الدينية المنظمة إلى فرق عديدة يتسع منها ما يتسع ثم يأخذ فى التقلص حين يتضح مع الوقت عجز وصفاته وعلاجاته وخيبة آمال الآملين فيها!
حياتنا إذا تأملناها بشىء من الهدوء والصبر والفهم فى أية مرحلة من مراحلها أطفالاً وصبياناً ومراهقين وشباناً ورجالاً وكهولاً وشيوخاً، وجدناها حبات كحبات المسبَحة.. كل منها منفصلة عن أختها.. يربط بعضها ببعض خيط متصل من لحظة مولدنا إلى لحظة فقدان الوعى عند الموت!.. هذا الخيط الذى يجمع بقوة تلك الحبات، هو شعور كل منا الدائم بذاته، وأنها هى هى فى كل حال وظرف وصحوة ونوم وفى كل زمان ومكان.. لا يغفل أحد منا قط عن الشعور بهذه الذات.
ما تراه عقولنا بدهياً غير قابل للمنازعة ولا يحتاج لبرهان، هو بقضه وقضيضه تقدير بشرى وليس ناموساً كونياً صحيحاً فى كل زمان ومكان.. هو تقدير رجحته عقولنا فى إطار قدراتها دائمة التغير القابلة للاتساع والانكماش والتقدم والتأخر إبان ما كتب لجنسنا من وجود فى العالم الذى لا يتعدى وجودنا ودورنا فيه وجود ودور حدث من أحداثه مهما ضخمته عقولنا أو أوهامنا!
كم من متشنج واعظ تعلو حنجرته بالمواعظ، وهو أجرأ الناس على نهش الفضيلة؟!
وعى الآدمى فيما يبدو دائم التقلب والتنقل باستمرار.. من شىء إلى شىء، ومن مراد إلى مراد، ومن معنى إلى معنى.. يجرى ذلك بحسب تقلبات عواطفه وآماله ومخاوفه وأطماعه وتدخلاته، وكذا تقديرات ما تسمح به النفس أو الأنا لعقله على درجة ما بلغه من دراية وغاية!
البشر عادة فى أى زمان يتقاربون ويتباعدون، ويستحيل أن يتطابقوا بأية حال تطابقاً تاماً.. ولذا كان ويكون وسيكون لكل آدمى أناه هو.. يجدها فى يقظته ونومه كأساس وحكاية وبداية ونهاية لنفسه، لا تختلط بنفوس الآخرين، ولا حتى بنفوس آبائه أو أولاده، وقليل جداً من يحاول بأمانة وإنصاف أن يبعد الأنا عن فهم ما يمكن فهمه عن غيره قريباً أو صديقاً أو شريكاً أو جاراً أو أجيراً.
يستحيل على جيل حىّ أن يحيا حياة جيل سابق أو قديم إلا حياة متكلفة غير صادقة.. ويستحيل على كل حىّ أن يحاكى حياة أبيه أو جده أو من هو أبعد من ذلك محاكاة صادقة جادة.. وتقليد الماضين هذا التقليد الأعمى خرافة!، ولكن من حق كل جيل أن يأخذ بفضيلة كانت عند الماضين إن عرف كيف ينجح فى تقديمها لجيله وزمنه، أو أن يؤيد فى جيله حقيقة عرفت فى الماضى على نحو معين وأن يهذبها هو على نحو نافع يلائم حاضره وحاضر من يعيش حياته معهم.
فى حياتنا الواعية والفكرية ما حيينا دائماً ما تتداخل المصادفة ويتداخل القصد والهوى والتعقل والآلية والانتباه وشىء من الاندفاع والحمق وشىء من البصيرة والفطنة، ولا ينتظر منا الآن أو فى أى وقت أن نكون خلاف ذلك.. لأننا بتنا من الكثرة الهائلة جداً فى العدد والعادات والمشارب وربما فى التكوينات، بحيث يستحيل علينا تعديل أنفسنا بالسرعة التى نطمع فيها أو نتصور تحقيقها فى أى اتجاه.
حاجاتنا الروحية جزء أساسى من حاجاتنا البشرية.. وهذا الجزء هو الذى يبنى حياتنا الروحية، ونحن مطالبون بتبنى تلك الحياة الروحية وترقيتها وتطويرها مع تنمية وترقية وتطوير حياتنا البشرية الدنيوية باستمرار وإصرار ما حيينا.. هذا الترقى الروحى هو ضمان تنمية وترقى وتطور حياتنا البشرية بعامة!
يقول المتصوفة: من اختار الخلوة على الصحبة، ينبغى أن يكون خالياً من جميع الأذكار إلاّ ذكر ربه، وخالياً من مطالبة النفس من جميع ما يُراد إلاَّ رضا ربه، وخالياً من مطالبة النفس من جميع الأسباب. فإن لم يكن بهذه الصفة، فإن خلوته يمكن أن توقعه فى فتنة أو بلية!!
لا يمكن أن يشعر بالوحشة من كان مع الله.
فارق بين الرحيل بالموت، والرحيل بالغدر والخيانة. الأول قد يترك وراءه من الذكريات والأسباب ما يجعله حياً فى نفوس أحبائه، تحوط بذكراه المحبات والتقدير، بينما يترك الثانى خلفه ما يبث المقت ويجعله فى نظر البعض ميتاً، مع أنه لا يزال يسعى فى دنيا الأحياء!!
عالمنا لا يكف عن إنتاج الحياة.. حتى الموت يفضى فيه إلى حياة.. والأحياء فى عالمنا تنتج أحياء مثلها بطرق مختلفة، كما تنتج أشياء أخرى حية وغير حية.. ولكنها لا تنشئ نفسها أو تخلق تلك الأشياء خلقاً من العدم.. لا يعى هذه الحقيقة من الأحياء إلاّ الآدميون دون غير الأحياء مما يملأ الكون من قوى وطاقات وظواهر وأشياء مما يجرى ويسرى ويذوب ويرسب ويتحد ويتفاعل ويتصل وينفصل ويتراكم ويتحلل وينجذب ويتنافر ويشتعل ويخبو ويضىء ويقيم ويتوهج ويتبدد. عرف ذلك الآدميون ويزدادون له معرفة وبه قدرة على الانتفاع أو الإيذاء إلى أن يغلب عقلهم على حمقهم تماماً فيرحب العالم بسلامهم أو يتغلب ولعهم بالإيذاء على عقولهم فيهلك الجنس البشرى وينفض الكون يده منهم جميعاً!!
لا يكتمل حمدك لله تعالى إلاَّ باجتماع الإخبار بمحامده وصفات كماله، مع المحبة له عليها، فلا يكتمل الإخبار بالحمد بغير المحبة. سبحانه وتعالى ابتدأت منه النعم وإليه تنتهى، وهو سبحانه بفضله وجوده غنى عن كل ما سواه.
لولا قدرة الله ما أبصرت العيون مناظرها، ولا رجعت الأسماع بمسامعها.
الحياة التى هى الأصل الأول الجوهرى لوجود كل آدمى كان ويكون وسيكون، ولكل ما معه وما فيه هى القيمة الكبرى لكل قيم البشر مجتمعة.. ونسيان الآدمى لها إهدار وإسقاط لمعنى كل قيمة أخرى فرعية مما قد تشغل بال وحرص وحساب واهتمام وعناية الآدميين. إذ لا قيمة لأى من تلك القيم الفرعية يمكن أن تتحقق وتبقى وتدوم، إلا إذا كانت مصحوبة بوعى كامل وإيمان بقيمة الحياة بعامة.