إذا تشعّبتْ جذورُ العبادة، وامتدّتْ عميقةً داخل القلب، من معرفة الله تعالى وشهود جلاله، وامتلاء الباطن بتوقير رب العالمين سبحانه، فإن تلك العبادة الحية النابضة تُثْمر ثمرات كثيرة، منها: الفهمُ عن الله، وإدراك مراده، والركون والسكون إلى حكمته فى تدبير شئون العباد، ومنها: علو الهمة وقوة العزيمة، والنهوض إلى تحصيل الكمالات النفسية والعقلية والأخلاقية مع القوة فى الحق، ومنها: امتلاء القلب رأفة ورحمة ولينا ورفقا، فى غير ضعف ولا مذلة، بل اتساعا ورحمانية، ومنها: أن تكون الدار الآخرة حاضرة فى منظومة حركة حياة الإنسان، وأن يكون عالمُ الغيب حيّا دَانِياً حاضراً فى فكر الإنسان وتصرفاته، ومنها: أن يكون فكر الإنسان وقراراته وتصرفاته ومشاريعه وحركة حياته موزونة بموازين الشريعة، محققة لمقاصدها، تراعى الآخرة مع الدنيا، ولا تكون أموره مقصورة على تحقيق مقاصد الدنيا فقط، ثم هى تُهْدِرُ الدار الآخرة وتتجاهلها، ومنها: أن تلك العبادات النابتة من قلبٍ فاض بالاعتقاد اليقينى الراسخ، الممتلئ اعتصاما بالمولى سبحانه، فإنها تحرر الروح من انقباضها، وتجعل باطن الإنسان متسِقاً، مرتبا، متآلفا، فلا يشعر من داخله بتناقض توجهاته وتعارض مقاصده، ما بين طمع فى الآخرة، يصحبه إغراق فى المطامع والأهواء التى تذل الإنسان، وتجعله مستعبدا لمن يطمع فى المصالح التى هى فى أيديهم، فالعبادة الحية الحاضرة، من صلوات خاشعات، وصيام مفعم بالفهم عن الله فى استلهام ما ينبغى التنزه عنه ظاهرا وباطنا، وغير ذلك من العبادات إنما هى ميزان حقيقى، تعتدل به شخصية الإنسان، وتستقيم، لأنه يتوجه بالخطاب والمناجاة والاستمداد كل يوم خمس مرات إلى قيوم السموات والأرض، الذى يملك مصائر العباد، وبيده نواصيهم، فتنصهر فى النفس العلل والنزوات، وتتعلم القوة مع الرحمة، وتقوى النفس وتترفع عن التحايل والمكر والخديعة والتحامل، ومن تلك الثمرات: شعور الإنسان بأهمية الإنجاز، وعمارة الأرض، والتعب والسعى فى بناء المؤسسات، وصناعة الحضارة، حتى تكون الأمة المحمدية أنموذجا معبرا بصدق عن هذا الدين الإلهى اليقينى الخالد، ولكن أجل تلك الثمرات على الإطلاق هو: التخلق، فإذا بالعبادة قد وقعت موقعا وسطا، بين الاعتقاد القلبى الراسخ، واليقين الفائض، من ناحية، وبين الأخلاق المحمدية الرفيعة الزاكية من ناحية أخرى، فاليقين القلبى المتوهج أثمر عبادة حية حاضرة، والعبادة الحية أثمرت خلقا حسنا، وسلوكا اجتماعيا راقيا، حتى يتحول الإنسان بمجموع ذلك إلى مظهر يرى الناس من خلاله شمائل أخلاق النبوة، ويكون سفيرا نبويا، يسعى بين الناس وهو يحسن التعبير عن شمائل سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، والأخلاق رافد آخر، يتعاضد مع العبادة، فى توليد الثمرات السابقة كلها، لأن علم الأخلاق لا يقتصر على آداب الظاهر فقط، بل يغوص إلى الباطن، لبناء شخصية متماسكة، قوية، رحيمة، موصولة بالغيب، قريبة من الله، واسعة الأفق، محبة للعلم والإنجاز، تُشْرِفُ على الدنيا، وتُطِلُّ عليها وعلى زحامها، وعلى تقاطع مصالحها، وضجيج أحداثها، من منظور الغيب، فإذا بها شخصية شريفة علوية ربانية، متحركة، منجزة، ساعية فى الأرض بالعمران، (وللحديث بقية).