إذا امتلأ القلب باليقين والحضور، وصار الغيب الشريف قريبا منه، وفاض القلب بالتمجيد والثناء على الله تعالى، وغاص القلب على جواهر المعرفة بالله جل شأنه، من توقيره سبحانه وشهود عظمة ربوبيته، كان من نتيجة ذلك أن تتولد العبادات والفرائض المثمرة، التى يشع منها نور البصيرة فى باطن الإنسان، فيرى الأمور والأشياء على حقائقها، فيرى الحق حقا، والزيف زيفا، والانحراف انحرافا، والتحايل تحايلا، وتعاف نفسه الزيف والباطل، وتعزف عن الأحقاد والمكائد، وتستشرف لليقين والعدل والحق، وتعشق تلك المعانى الشريفة الفاضلة، وتسرى نسمات الحكمة إلى فهمه وعقله، فحينئذ تختمر فى النفس عجينة الأخلاق، وتتولد براعم الأخلاق وأغصانها الصغيرة داخل النفس، وتطل على النفس من داخلها ميول بدائية أولية للشهامة والتخلق والأخذ بالأكمل، ولا تلبث تلك الميول أن تشتد، وتزداد النفس قناعة بها، وحبا لها، ويجد الإنسان من نفسه بالتدريج نزوعا قويا، وميلا جارفا إلى المعالى، وترفعا عن الدناءة والخسة، ومعاندة للأهواء النفسية المتحاملة المتعدية الظالمة، ويمتلئ الباطن منه بالهمة الشريفة، التى يتسع لها فضاء العقل، فيتألق، ويفكر، وتتسع أساليبه فى التصرف واجتياز الأزمات، ويرغب فى الإنجاز والعمل، ولا يمل أبدا من اكتساب الخبرات والمهارات، ويهيم بالعمل ولو كان فى سن السبعين والثمانين أو أكثر، وهذا الذى يفسر لنا نفسيات الصحابة -رضى الله عنهم- وسائر أئمة الأئمة، من العلماء، والفقهاء، والعُبَّاد، والباحثين العباقرة عبر تاريخنا، وكيف انقلبت حياتهم كلها عملا ومجاهدة، وحركة واسعة، من شرق الأرض إلى غربها، وأنتجوا علوما وآدابا، وفنونا وحضارة، دون أدنى التفات منهم إلى العوائق والمشكلات، وحاجز السن، ونقص الإمكانيات، لقد أمعنوا فى منظومة القيم التى نجتهد هنا فى وصفها، ونجحوا فى استلهام العلاقة العميقة برب العالمين سبحانه، فقاموا بالعبادات بصدق، فصارت قلوبهم وبواطنهم رياضا واسعا من الطمأنينة والسكينة، واتسعت للعقل بسبب ذلك مادة الفكر والتأمل والابتكار والتفنن، ولا أزيد هنا فى الحقيقة على كونى أسبح فى عقول الأكابر وأغوص على نفسياتهم، وأحاول أن أربط ما بين إنجازاتهم من ناحية، وطريقة تكوينهم ومعايشتهم لهذا الدين من ناحية، حتى أرى كيف كان المنهج النبوى المحمدى يصْنع الإنسان النبيل، فهى إذن دائرة مغلقة، تبدأ باليقين الجارف، والباطن الحار، الميال إلى الإقبال على الله، مما يؤدى إلى إيقاع العبادات متوهجة مشعة نابضة، لها ذوق، وفيها أنس، مما يؤدى إلى أن تتولد فى النفس بذور الأخلاق الشريفة الزاكية، التى يجد لها الإنسان حلاوة وارتياحا، يزيد به حضور قلبه فى الإقبال على مولاه، فتزداد به العبادات حضورا وتأثيرا، وهكذا أبدا، إنها رحلة بناء الإنسان النبيل، وهى ثمرة المنهج النبوى المؤيد بالوحى الشريف، والقرآن العظيم، وهى الصورة الصحيحة لصناعة الإنسان المسلم، المكتمل البناء، وإذا اختلت طريقة تكوينه انهار الإنسان أو تشوه، وهو يظن نفسه متدينا، قائما بالعبادات والفرائض، وللحديث بقية.