"من منكم بلا خطيئة فليرمها أولا بحجر" ظلت هذه العبارة تعاود الإلحاح على ذهني بينما كنت أشاهد فيلم Hannah Arendt للمخرجة مارجريت فون ترونا، والذى كان من ضمن عروض بانوراما الفيلم الأوروبى 2013. ثمة كثير من الغيبيات التى تحاوطنا فى الحياة فيما يخص حوائجنا ورغباتنا والطريقة التى ننتهجها فى التعامل مع بعضنا البعض، والمعايير التى نموضعها أمامنا لكى نفهم بها أنفسنا، وللحق أن معظم ما ذكرته قد تحول إلى قوالب جامدة، أرقام صحيحة لا تقبل القسمة، ولا تملك من المرونة ما يشبه طبيعة النفس البشرية ذاتها التى لا تخضع لأى قواعد، والتى لا يُمكن وصمها جملة واحدة بالشر أو بالخير، ورجمها بالأحكام تباعا من دون تروى. وقضية هانا آرندت الحقيقية نموذج جاد لكسر هذه التيمات الثابتة فى التفكير، وطرح نوع فعلى من العقد الحياتية الدقيقة التى تبدو فى بساطتها اشكالية انسانية عادية ولكنها تحمل من العمق ما يدفع بها لأن تقفز إلى الشاشة الفيلمية وتحتل فترة ليست قليلة من ذهن المشاهد. هانا مفكرة يهودية، دُعيت برغبة منها إلى محاكمة أحد المسؤليين الكبار فى الرايخ الألمانى لجرائمه التى ارتكبها فى ترحيل اليهود والعمل على إبادتهم. وحينما عادت وطُلب منها أن تُقدم انطباعا عما رأت، طرحت افكارا غاية فى التعقيد تخص الإنسان بحد ذاته على مبعدة من الجنسيات والطوائف وحزبيات الشعوب، الأمر الذى دفع بكثير من اليهود إلى ازدارءها واعتبارها عميلة نازية تسيىء لشعبها ومعاناته. طريقة المعالجة النقطة التى ارتكزت عليها هانا فى تكوين انطباعها عن محاكمة أدولف إيخمان كانت "التفكير"، فهى وبناءا على تحليلها لأقواله، رأت أنه من الدونية التى تُنصّبه وحده نية الإساءة لشعب كامل، فهو إختار ألا يمارس حقه فى أن يكون إنسان، بل أطاع رؤساءه، ولم يُرهق ذاته فى تأمل ما يحدث حوله بجدية، وقد تم الإعداد بشكل جيد لمراحل تتمة هذه النتيجة فى ذهن هانا. بحيث بدت فى مشاهد فلاش باك تسترجع بعض المراجعات التى قامت بها مع أحد أساتذتها حول معنى التفكير والمفردات المتعلقة به، وبعدها بعدة مشاهد ظهرت هانا وهى مسترخية على أريكتها تسترجع فى مخيلتها بعض من أقوال إيخمان عندما تفوه بجملة "لم أكن أفكر حينها" حينما واجهه القاضى بأحد الإتهامات، ليتبعها القاضى "وهل كنت معتوها؟" فيتراجع ايخمان وكأن وقع معنى جملته أربكه وفاجأه "لا بل كنت افكر بالطبع". وبالرغم من أن تواجد هانا فى المحكامة تم تصويره فى عِدة مشاهد، إلا أن تلك الواقعة بالذات عمد السيناريو فى ذكرها بعدما عادت هانا إلى منزلها وكانت بصدد كتابة مقالة طويلة عن ما حدث، مما أزاد من هيبة الفكرة ووضح أهميتها كحجر أساس انطلقت منه هانا لتحليل المحاكمة بأكملها. والأجمل فى معالجة الفيلم لهذا الأمر، هو الإكتفاء فى البداية بإطلاع المُشاهد بإنطباع هانا ضمنيا فى مقالها وجعله فى مساواه مع صفوف الجماهير التى قرأته دفعة واحدة بغير شرح أو تفسير، وبالتالى قد تميل مخيلة المُشاهد إلى إعتبار هانا تنحاز لإيخمان على حساب شعبها كما حسبها المعظم حتى من أقرب أصدقائها ومحبيها، وتستمر المعاناة التى تعرضت لها تباعا مع مُضى المعانى الملتبسة الذى خلفه مقالها على الجميع ومنهم المشاهدين فى حد ذاتهم، فكان كل ذاك مدعاة إلى الإنغمار مع أطروحة الفيلم والتوحد معها بفضول ومتعة، حتى أتى المشهد الجميل الذى توضح فيه هانا موقفها صريحا والذى هو يخص فى مجمله تحليلها لمفهوم الشر الذى يدعي الكثيرون أن إيخمان يملكه وهو من الأساس أدنى من أن يفكر وأن يسيطر على روحه بل تركها غلالة فى يد غيره لتُقيد بها أرواح آخرين، فتقول " لم أدافع عن (أدولف إيخمان) وإنما حاولت أن أربط بين اعتياديته الشديدة _فى ألا يرفض أوامر رؤساءه ويختار أن يكون انسان_ وبين أعماله فى فظاعتها، فمحاولة الفهم لا تعنى المغفرة، ولكنه واجبى أن أفهم طالما ارتضيت أن أكتب عن هذا الموضوع". جملة أخرى فى الحوار جاءت فى موضعها، ومنحت تأويل مقالة هانا أبعادا أخرى عن تلك التى تقصدها، حينما سألها صديقها العزيز "ألا تُحبين شعبك؟" فردت بجملة فضفاضة " أنت تعرفنى، أنا لم أحب أى شعب يوما، فلماذا قد أحب اليهود" مثل هذا الرد قد يُرجح كفة تحيز هانا ضد اليهود بجدارة مثلما يراها آخرون، بينما وفى آن واحد المعنى الورائى للجملة يُدعم طريقة تفكير هانا والتى تختص بالإنسان والإنسان وحده، دون مسميات وتصنيفات. السيناريو خط هام من خيوط السيناريو خاص بعلاقة هانا وزوجها، وهى العلاقة الشبه المثالية بين رجل وزوجته، وقد سلط السيناريو عليها ضوءا ملحوظا، وكأنه يوصل معنى شديد الحساسية بأن التشبع بحالة حب صحية يُفيد العقل ويمنحه طابع متهمل لا يرتضى بالبديهيات، فهو فى إيجاز يخلق عقلا قادرا وانسانا سويا، يؤمن بالدقائق الصغيرة التى لم يعد يفرق بينها الناس فى نظرتهم للأمور مثل أن .... محاولة الفهم لا تُعنى بالضرورة المغفرة الشر لا يُختذل كله فى شخص أو معنى الحب لا يقتضى تصنيفات فئوية ومسميات عرقية وغيرها من الخلفيات التى لم نعد نضعها نصب أعيننا فى معايشتنا معا، فزوج هانا كان يؤمن بنفس الأفكار، هو الاخر يملك عقلا معافى من الجائز أن يكون حبه لهانا هو روشتة ديمومة صحته. على نفس المنوال جاءت علاقة هانا بأحدى صديقاتها، حتى السكرتيرة التى تعمل لديها، كلها اجواء اصطبغت بصبغة نادرة جدا من الحب والنقاء الذى ولابد انعكست آثاره على نضارة هذه المرأة وتألقها على مستوى الفلسفى والفكرى، لتنكسر فكرة التابوه المعهودة التى صُدرت لنا قبلا، بأن حالة الإبداع تقتصر فقط على كمية المعاناة التى يتعرض لها المُبدع. مسحة من الإرتباك أصابت السيناريو وقت رجوعه فى لقطات الفلاش باك فى أوقات صبا هانا وفترة دراستها، فجاءت بعض اللقطات بغير دلالة لا تشعر فيها إلا بنية الحشو والإطالة، فضلا عن البناء الناقص لعلاقتها الغرامية بأستاذها، والتى ظهرت مبتورة وبالتالى لم يقدم لك وجودها أى جديد . الصورة مبدئيا لابد أن أتطرق إلى إصرار المخرجة على الإتيان بالصور الحقيقية للمحاكمة، فهى وحدها تفصيلة أضفت كثير من الواقعية وأشعلت المزيد من التيقظ فى المتابعة، فكان بديعا أن ترى أولف إيخمان ذاته وهو يمتعض طوال الوقت من ردود أفعال القاضى والشهود وينطق فى سخرية " أرى أيها القاضى أنك تحسبنى هنا قطعة من اللحم". أما عن الحالة الشعرية التى خلقتها "تورتا" بالصورة فبلغت من القوة تأثيرا شديد الفاعلية مع الحدث، بداية من الأجواء الدافعة لجذب بصرية المشاهد فى لقطات إختطاف إيخمان، فضلا عن اللقطات الى تكررت لتُظهر فيها هانا فى أكثر من مرة تتموضع على أريكتها وتتحرك الكاميرا من حولها أو أمامها بحركة موحية وكأنها طريقتها المفضلة لإستولاد الفكرة. كذلك فطنتها فى التعامل مع سرعة حركة الكاميرا، ففى أوقات رصدها لردود فعل هانا الشكلية أثناء مشاهداتها المحاكمة كانت تتحرك بالكاميرا فى حركة طولية متوترة تتلاءم مع نظرة عينها الثاقبة الغير راضية، بخلاف أوقات أخرى تحركت فيها الكاميرا بعذوبة فى مجالس جمعت بين هانا وصديقاتها أو زوجها. آخر كلمتين: فيلم هانا آرندت فيلم متفرد فى تقديمه لحالة سيرة ذاتية لا تختص بصاحبها على قدر تصويرها لأفكار إنسانية تنتمى إلى البشرية عامة، فهو هنا لا يتتبع حياة شخص ولكنه يُجسد فكرة.