يعد مؤتمر "هرتسيليا" الحدث السنوي الأهم على الصعيدين الأمني والاستراتيجي في الكيان الصهيوني، فالمؤتمر الذي يعقد بمدينة "هرتسيليا" شمال فلسطينالمحتلة يناقش على مدار ثلاثة أيام أهم التحديات التي تواجه "إسرائيل" أمنياً وعسكرياً، وذلك بحضور قادة الكيان السياسيين والعسكريين والأمنيين وكذلك عدد من السياسيين والخبراء الأجانب وأحياناً العرب! المؤتمر الذي يعقد بشكل دوري منذ عام 2000 برعاية مركز "هرتسيليا للتخصصات المتعددة" تسهم توصياته بتحديد أولويات "إسرائيل" على المستوى الأمني والاستراتيجي، وتسهم أيضا في تحديد بوّصَلة الكيان السياسية، انطلاقاً من الدافع الأمني، فشهد مؤتمر هذا العام مناقشة وثيقة أعدها فريق من الباحثين توصي بإدخال أربعة تعديلات على العقيدة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية هي: تأكيد التحالف مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، إنشاء ثلاثة مجالات استراتيجة للكيان في الخليج وشرق المتوسط وشرق افريقيا، منع وإحباط التهديدات العسكرية المحتملة، وأخيراً أنشاء آلية داخل الكيان للتكيف مع المتغيرات المتلاحقة في المنطقة. تتكون العقيدة الأمنية للكيان الصهيوني منذ نشأته من عدة مبادئ أهمها: المبادأة بالحرب، نقل المعركة إلى أرض العدو، حد جغرافي فاصل على حدود المواجهة (جنوبلبنان قبل 2000 وهضبة الجولان المحتلة)، تحقيق نصر سريع وحاسم باستخدام أسلوب حرب البرق (الحرب الخاطفة التي لا تستغرق فترة طويلة)، المبادرة بالهجوم، تقليل الخسائر البشرية. ويمكن القول أن بعد حرب 1967 فشلت معظم هذه المبادئ في تحقيق ما تهدف إليه، ففي حرب 1973 فقدت "إسرائيل" ميزة المبادأة والمبادرة بالهجوم، كذلك في تحرير الجنوباللبناني عام 2000، حيث أصبح مبدأ تقليل الخسائر البشرية محل تساؤل بعد أن فقدت إسرائيل مئات من قواتها بنهاية التسعينات بسبب مبدأ الحفاظ على أرض فاصلة، كذلك بعد هزيمة الجيش الصهيوني عام2006 وتعرض الجبهة الداخلية للقصف وتعثر الجيش الإسرائيلي لعشرات الأيام في عدة كيلومترات من أراضي جنوبلبنان أفقد الإسرائيليين أهم ميزتين في عقيدتهم العسكرية؛ نقل المعركة إلى أرض العدو والحرب الخاطفة، وهو ما تم التأكيد عليه في حرب غزة 2009، وقصف تل أبيب في 2012 من جانب المقاومة الفلسطينية. أثبت هذه الهزائم المتوالية أن العقيدة الأمنية العسكرية ل"إسرائيل" تحتاج إلى إصلاح جذري، تمثل بشكل أولي في تغييرات تكتيكية وإجرائية في نهج الدفاع، فمن مشاريع التصدي للصواريخ الباليستية ومتوسطة وقصيرة المدى (القبة الحديدية، مقلاع داوود، السهم) والضربات الوقائية خارج الحدود، إلى الاغتيالات والحرب المعلوماتية والسيبيرانية. بعض من هذه الوسائل والأساليب "الدفاعية" المشار إليها تعتمدها إسرائيل منذ الستينات (الاغتيالات على سبيل المثال)، إلا أنها كانت في النهاية استثنائية وتحتاج إلى المرور بمراحل معقدة سياسياً وتتطلب تمهيد ظرف إقليمي ودولي يسمح بتنفيذها دون توابع سلبية، لكن الجديد الذي طُرح في مؤتمر هرتسليا هذا العام هو أن يتم اعتماد هذه الوسائل ضمن مجال استراتيجي جديد بالتحالف مع دول إقليمية. التوصية الأولى للوثيقة الأمنية المشار إليها، هي أن على "إسرائيل" خلق مجالات تحالف استراتيجي مع ثلاث جهات: مع دول شرق أفريقيا (أوغندا، أثيوبيا، جنوب السودان، كينيا) ودول شرق المتوسط (اليونان، قبرص، دول البلقان)، كذلك مع الدول المحيطة بها التي تربطها بها علاقات رسمية (مصر والأردن وقطر) وأن تعزز علاقتها الإقليمية الحالية بأكبر قدر ممكن، والمجال الاستراتيجي الثاني في منطقة الخليج من خلال إقامة علاقات رسمية أو غير رسمية مع دول الخليج وعلى رأسها السعودية من مدخل مبادرة السلام العربية[*] واعتبارها ركيزة أساسية في توجه "إسرائيل" نحو الدول العربية لتشكيل مجال استراتيجي مشترك، وهو ما يفسر سبب حضور وزير شئون الأسرى السابق في السلطة الفلسطينية أشرف العجرمي للمؤتمر، حيث تولى العجرمي شرح ضرورة أن يوافق الإسرائيليين على المبادرة العربية باعتبارها الحل الأمثل لإعطاء الأخيرة غطاء إقليماً وشرعية دولية من شأنهم جعل إسرائيل في حالة تكامل مع المنطقة العربية. ثاني التعديلات المقترحة في الوثيقة الأمنية هو منع وإحباط التهديدات المحتملة للكيان الصهيوني، أي أن تكون الضربات العسكرية الوقائية خارج الحدود ستصبح ركن أساسي في العقيدة السياسية الإسرائيلية، وهو ما يعني أن مهاجمة أهداف تعتبرها "إسرائيل" خطراً محتملاً لن تخضع للحسابات السياسية والتعقيدات الدبلوماسية، وستتم وفق رضا أو حتى غض طرف في حال إذا كانت في المحيط الاستراتيجي الجديد المشار إليه. وحل ثالثاً إنشاء آلية لصناعة القرار داخل الكيان الصهيوني تضمن التكيف مع المتغيرات السريعة في المنطقة، حيث أن التغيرات العاصفة التي شملت المنطقة منذ ثلاثة سنوات والمستمرة إلى الأن كان تعاطي "إسرائيل" معها متخبط وبطئ وغير موفق بحسب تعبير الوثيقة، وهو ما يلزم أن تكون هناك منظومة صناعة قرار تعتمد السرعة والدقة للتكيف مع المستجدات في المحيط الحيوي للكيان الصهيوني للتقليل من الأضرار الناتجة عن هذه التغييرات بالنسبة لهم. رابعاً كان التأكيد على التحالف مع الولاياتالمتحدة، وهو ليس مجرد تشديد على أهمية العلاقة العضوية ما بين الدولتين، ولكنه يهدف إلى أن تكون "إسرائيل" شريك وضلع أساسي في الرؤية الاستراتيجية الأمريكية لقضايا مثل الإرهاب والملف النووي الإيراني، والالتزام بهذه الرؤية الأمريكية والتعاطي معها والعمل على توثيق العلاقات العسكرية والأمنية بينهم. في حال أخذت القيادة السياسية الإسرائيلية الحالية أو القادمة بهذه التوصيات-وهو غالباً ما يحدث- سيكون هذا بمثابة مرحلة جديدة ستشهد تمدد المجال الاستراتيجي للكيان الصهيوني ليصل إلى منطقة الخليج عن طريق التفاهمات السياسية والمصالح الأمنية المشتركة لا الحرب، وهذا يتوقف على مدى استجابة دول مثل السعودية، وذلك في ظل وجود قنوات اتصال "علنية" بين مسئوليها، أخرها كان الشهر الماضي حيث ألتقى رئيس الأركان السابق للجيش الصهيوني "عاموس يدلين" برئيس الاستخبارات السعودية السابق تركي الفيصل في بلجيكا وجرت بينهم مناظرة تلفزيونية، وهو ما أعده مراقبون خطوه في سبيل تهيئة الرأي العام العربي بعلاقات سعودية-إسرائيلية مقبلة.