التف حول صوته قلوب وعقول ملايين المسلمين في مصر والعالم على مختلف المستويات و الأعمار، وكان القرآن له علما وعملاً، فلمع اسمه وصيته في سماء التلاوة داخل وخارج الحدود، وصنع بعطائه الفياض أسطورة إنسانية ذات معني خاص، وقد ارتبطت تلاوته عند بعض المصريين بقدوم شهر رمضان، فهو من أصحاب الأصوات الخاشعة وكانت موهبته سر الصدق الذي مازال يفوح من نبراته رغم رحيله منذ سنوات طويلة ، هو القاريء الشيخ "محمود علي البنا". ولد "كروان القرآن في قرية (شبرا باص) مركز شبين الكوم محافظة المنوفية يوم 17 ديسمبر عام 1926م، ونشأ بين أحضان الطبيعة الريفية بما تحمل من مناظر طبيعية، وحياة تقليدية، وفطرة تسيطر على مجريات الأمور كلها، وكان لهذه الطبيعة الريفية الأثر الواضح في تكوين شخصية أفراد المجتمع الزراعي المكافح الحريص على حياة شريفة طاهرة عمادها الجهد والعرق والكفاح. وفي سن مبكرة ألحقه والده بكتاب القرية قبل أنيكمل الخمس سنوات ، فأتم حفظ القرآن في التاسعة من عمره وكان أصغر طفل بالقرية يحفظ القرآن الكريم كله وقد حاول جده أن يلحقه بمعهد المنشاوي الديني بمحافظة طنطا إلا أن صغر سنه حال دون ذلك فلما بلغ الثانية عشرة من عمره انتقل إلى مدينة طنطا والتحق بالمعهد الديني وظل يدرس به ويعيش بمفرده بعيداً عن والده. وكانت مدينة طنطا في ذلك الوقت عامرة بالقراء العظام كالشيخ سعودي والشعشاعي فأخذ يتردد على أماكن تواجد هؤلاء القراء ليستمع إليهم ويتعلم منهم ثم يعود إلى البيت محاولاً تقليد أسلوبهم وطريقة أدائهم حتى أنتشر صيته بين زملائه الدارسين بالمعهد فوصل ذلك أن يقرأ عليهما ما تيسر من القرآن فأثنيا عليه وأشارا عليه بالتفرغ لدراسة علوم القرآن وتجويده وأن يترك الدراسة بالمعهد قائلان له : لقد حباك الله صوتاً جميلاً وقد خلقت لتكون صييتاً وقارئاً فدعك من النحو والصرف وما شابه ذلك من علوم المعهد فترك المعهد دون أن يبلغ والده . كان عام 1947م بمثابة نقطة الإنطلاق والتحول في حياة "البنا"، وذلك عندما جاء إلى القاهرة ونزل على بعض الدارسين من أهل قريته وأقترب من عظام القراء كالشيخ محمد سلامة والشيخ على محمود والشيخ طه الفشني ثم ذهب بعد ذلك إلى الشيخ درويش الحريري ليتعلم الموسيقى وعلم المقامات الموسيقية ولم يكن قد تجاوز السابعة عشرة من عمره بع، واستمع إليه استمع إليه بعض المسؤلين بجمعية الشبان المسلمين فقدموا إلى صالح باشا حرب رئيس الجمعية في ذلك الوقت. وفي عام 1948 طلب منه محمد بك قاسم أن يذهب للإذاعة ليعقد له امتحان أمام اللجنة وبالفعل ذهب الشيخ محمود في اليوم التالي وتقدم لإعضاء اللجنة فتم إعتماده مقرئاً بالإذاعة المصرية وعمره لم يتجاوز العشرين عاماً أو يزيد بعام واحد فكان أصغر قارئ يعتمد بالإذاعة المصرية في ذلك الوقت ،وبمجرد اعتماده بالإذاعة حدثت بعض المشاكل والاعتراضات من قبل بعض المقرئين القدامى على مساواته بهم في الأجر ،وأضربوا عن قراءة القرآن بالإذاعة ولم يذهبوا إليها حتى يؤثروا على المسؤلين لتلبية رغباتهم فتزيد أجورهم أو يتم تخفيض أجر الشيخ البنا على أسوأ تقدير إلا أن إضرابهم عن القراءة كان في صالح "البنا "إذ لم يبق أمام المسؤلين إلا هو فكان يرفع الأذان على الهواء ويقوم بتلاوة قرآن السهرة والافتتاح فأصبح محمود البنا يلتقي بالمستمعين كل يوم دون ترتيب منه. لم يترك قارة من قارات الدنيا إلا وذهب إليها على مدار الأعوام وخاصة في شهر رمضان المبارك الذي طالما أسعد الملايين من الجاليات المسلمة بسماع صوته العذب الفياض، فرقت عشرات القلوب التي كانت كالحجارة أو اشد قسوة، اختاره الأزهر الشريف لحضور كثير من المؤتمرات الإسلامية العالمية ممثلاً أهل القرآن وقراءه وأرسلته وزارة الأوقاف إلى كثير من المسابقات العالمية كمحكم وقاض قرآني، وانهالت عليه الدعوات من الملوك والرؤساء والشيوخ العرب لإحياء المناسبات الدينية كالمولد النبوي الشريف وليلة الإسراء والمعراج وليلة رأس السنة الهجرية وافتتاح المؤتمرات الإسلامية العالمية المقامة على أرض بلادهم، فكان خير سفير للقرآن الكريم. كتب نعيه بنفسه قبل أن يبكيه عشاقه وعشاق صوته عندما رحل عن دنيانا يوم 20 يوليو 1985م، ليدفن في ضريحه الملحق بمسجده بقريته شبرا باص. قامت الدولة بتكريم الشيخ البنا بعد وفاته حيث منح اسم الشيخ البنا وسام العلوم والفنون عام 1990م في الاحتفال بليلية القدر وتسلمه نجله الأكبر المهندس شفيق محمود علي البنا، وكرمته محافظة سوهاج بإطلاق اسمه على الشارع الرئيسي بجوار المسجد الأحمدي بمدينة طنطا، كذلك أطلقت محافظة القاهرة اسمه على أحد شوارع حي مصر الجديدة.