يلقى سد النهضة والسدود الإثيوبية الأربعة الأخرى "مابيل، بيكو أبو، مندايا، كارادوبي" بظلال كثيفة على الإنتاج الزراعي والغذائي في مصر، الذى يتعرض بسببها إلى نقص جوهري؛ نتيجة لفقد جزء كبير من الموارد المائية والأرضية، ووفقًا لبعض السيناريوهات ستتسبب في اقتطاع 15 مليار متر مكعب سنويًّا من حصة مصر المائية في المدى الطويل، بدءًا من تشغيل سد النهضة وحتى 2050، وتمثل هذه الكمية المتوقع اقتطاعها نحو 26% من الحصة السنوية، ومن المتوقع أن ينخفض إنتاج الغذاء مستقبلاً بنفس النسبة. حيث أكد الدكتور جمال صيام أستاذ الاقتصاد الزراعي بكلية الزراعة جامعة القاهرة في دراسة له بعنوان "الفجوة الغذائية المستقبلية في مصر في ظل سيناريوهات المياه" أن الفجوة الغذائية المستقبلية هي الوجه الآخر من الفجوة المائية، فيمكن السيطرة عليها أو محاصرتها من خلال تطبيق عدد من السياسات تتعلق بجانبي العرض والطلب على كل من المياه والغذاء، وتستهدف مثل هذه السياسات من ناحية تدعيم جانب العرض، سواء عرض المياه، ومن ثم عرض أو إنتاج الغذاء، ومن ناحية أخرى تقليل الطلب على المياه وضبط الطلب على الغذاء. وفيما يتعلق بالعرض فيشمل السياسات المتعلقة بالموارد المائية كزيادتها عن طريق تنقية مياه الصرف الصحي، وترشيد استهلاك مياه الري من خلال اتباع طرق الري المحسن، والحد من استنزاف المياه الجوفية، واستنباط ونشر الأصناف النباتية الأقل استهلاكًا للمياه، وكذلك الممارسات الزراعية الموفرة للمياه، وإصلاح الإطار المؤسسي للمياه، وصيانة الأراضي، والحفاظ على الأراضي القديمة ضد التوسع العمراني، والحد من التوسع الأفقي، والاهتمام بالتركيب المحصولي، وتقليص مساحة الأرز، وضبط زراعات الخضر والفاكهة، بالإضافة إلى زيادة الإنتاجية الزراعية من خلال التطور التكنولوجي، وسياسات البحوث الزراعية، والإرشاد الزراعي، وأقلمة الإنتاج الزراعي والغذائي مع التغير المناخي. وأوضح صيام أن الدراسة تطرح حزمة من المشاريع والبرامج والإجراءات التي ينبغي إعطاؤها أولوية متقدمة لمواجهة المخاطر المحتملة في مجال إنتاج الغذاء، وذلك في إطار استراتيجية تنموية تركز على قطاع المياه، فينبغي البدء فورًا في تنفيذ مشروع قومي لتنقية مياه الصرف الصحي والصناعي، يستهدف معالجة 21 مليار متر مكعب في 2030 و28 مليار متر مكعب سنويًّا في 2050، وهذه المياه تكفى لزراعة من 3-4 ملايين فدان، وتقدر الاستثمارات المطلوبة لهذا المشروع بنحو 280 مليار جنيه (10 جنيهات للمتر المكعب)، في مشروع الري المحسن يتكلف الفدان 10000 جنيه لتوفير 15% من مياه الري. ومن الناحية العملية إذا لم يتم تنقية هذه المياه، فسوف يضطر المزارعون إلى استخدام مياه الصرف الصحي (غير المعالجة) في ري المحاصيل، ثم يستخدمون الصرف الزراعي الناشئ عنها في الري مرة أخرى، الأمر الذى يترتب عليه كارثة تلوث بيئي ضخمة، وعمل برنامج فعال للبحوث الزراعية والمائية يستهدف التوسع في استنباط الأصناف النباتية الموفرة للمياه والمقاومة للجفاف والملوحة، وكذا الممارسات الزراعية وأساليب الري الحقلي الموفرة للمياه، وتخصيص استثمارات كافية في مجال البحوث الزراعية والمائية والأقلمة مع التغير المناخي، ويقترح تخصيص نسبة لا تقل عن 1% من الناتج المحلي الإجمالي الزراعي، تعادل نحو 6 مليارات جنيه سنويًّا (الميزانية الحالية 3 ملايين جنيه سنويًّا!). والتزام الحكومة بتقليص مساحة الأرز من 1.2 مليون فدان إلى 700 ألف فدان يتم زراعتها في شمال الدلتا؛ مما يوفر نحو 3 مليارات متر مكعب من المياه سنويًّا، وتقليل الفواقد الزراعية، حيث يقدر المعادل المائي لهذا الفاقد الغذائي بحوالي 10 مليارات متر مكعب سنويًّا على الأقل. ويستلزم الأمر توفير هذا القدر من المياه، وضخ استثمارات ضخمة في البنية التسويقية، وتوسيع الطاقة التخزينية. وأشارت الدراسة إلى سيناريو تحجيم الفجوة الغذائية المستقبلية في حالة ما إذا اتخذت ونفذت السياسات الزراعية الصحيحة، والتي تستهدف معالجة الشح المائي من ناحية والنهوض بالإنتاجية الزراعية من ناحية أخرى، فإن تنفيذ هذه السياسات يتطلب إنفاق قدر كبير من الاستثمارات، وخاصة في مجال تنقية مياه الصرف الصحي؛ لتعويض النقص في كمية المياه المتاحة للزراعة وإنتاج الغذاء، سواء بسبب زيادة احتياجات المياه للاستخدامات غير الزراعية، أو بسبب السدود الإثيوبية، ويقدر النقص نتيجة لزيادة السكان ب 5 و12 مليار متر مكعب في عامي 2030 و2050 على الترتيب، وبالنسبة للسدود الإثيوبية فيفترض فى هذا السيناريو أن تؤدي إلى نقص في الموارد المائية النيلية تقدر ب 10 مليارات متر مكعب سنويًّا، وعلى ذلك تبلغ جملة كمية المياه المقتطعة من مياه الري 15 مليار متر مكعب في 2030 و22 مليار متر مكعب في 2050، وإذا ما أخذ في الاعتبار أنه يمكن توفير 3 مليارات متر مكعب جراء تقليص المساحة المزروعة أرزًا، فيكون صافي كمية المياه المقتطعة 12 و19 مليار متر مكعب في العامين المذكورين على الترتيب، ويقتضى الأمر إذًا استهداف تنقية كميات من مياه الصرف الصحي تعادل الكميات المتوقع اقتطاعها؛ لإنقاذ مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية من التعرض للتبوير بسبب نقص المياه، وفي ظل متوسط الاحتياجات المائية الحالية والبالغ 6440 مترًا مكعبًا سنويًّا عام 2015 تبلغ هذه المساحة 1.9 مليون فدان في 2030 ونحو 3 ملايين فدان في 2050، أي ما يمثل 22% و34% على الترتيب من المساحة الحالية للأراضي الزراعية، وهي نفس النسب التي يمكن إنقاذها من إنتاج الغذاء مقابل هذه الاستثمارات، ومن ثم تقليص الفجوة الغذائية المستقبلية. وتابعت الدراسة أنه على صعيد الإنتاجية الزراعية هناك متسع لتحقيق معدلات نمو جوهرية فيها، ترفع إنتاج الغذاء بمعدلات تبطئ من التدهور المتوقع في الفجوة الغذائية؛ نتيجة اتساع هوة العجز المائي مستقبلاً، خاصة وأن استمرار وزيادة العجز المائي سوف يغلقان الفرص أمام زيادة إنتاج الغذاء عن طريق التوسع الأفقي في الأراضي الجديدة، ومن الجدير بالملاحظة أن الدولة تخاذلت خلال العقدين الأخيرين عن إيلاء التطور التكنولوجي في مجال الزراعة الأهمية المستحقة؛ مما أدى إلى تباطؤ النمو في الإنتاجية الزراعية بشكل كبير، بعد أن كانت هناك طفرة كبيرة في إنتاجية محاصيل الحبوب خلال حقبة الثمانينيات والتسعينيات؛ نتيجة لاستنباط ونشر الأصناف عالية الإنتاجية. وما يدل على تخاذل الدولة مؤخرًا في هذا المجال مؤشران أساسيان، هما مخصصات البحوث الزراعية من جانب، وقوة جهاز الإرشاد الزراعي من جانب آخر، وهذان المؤشران في الوقت الحالي عند أضعف مستوياتهما، ولا يعول عليهما بهذا الشكل في إحداث معدلات نمو ملموسة في الإنتاجية الزراعية، وكما هو مقترح، ينبغي أن يخصص ما يعادل 1% من الناتج المحلي الإجمالي الزراعي – أى نحو 6 مليارات جنيه سنويًّا – لمنظومة البحوث الزراعية والمائية والإرشاد الزراعي، وهذا التمويل قد يكون كافيًا لتحقيق معدل نمو في الإنتاجية يتراوح بين 2-3 % سنويًّا.