مصر واحدة من خمسة عشر دولة أفريقية هى الأكثر تأثرا بالتغيرات المناخية ، إذ هى تقع فى اكثر المناطق جفافا فى العالم ، وتمثل الأراضى الصحراوية 96.5% من مساحتها الكلية ، بينما يتكدس السكان ال 90 مليون فى ال 3.5% الباقية ،والقاعدة الموردية الزراعية غاية فى الضيق ، فنصيب الفرد من الأرض الزراعية أقل من 0.1 فدان ، ونصيب الفرد من المياه 620 متر مكعب سنويا.وبمرور الزمن سيكون الوضع السكانى الموردى أكثر حرجا ، إذ يتزايد السكان مع ثبات الموردين أو تناقصهما .فى عام 2030 مع بلوغ عدد السكان 118 مليون نسمة ينخفض نصيب الفرد من المياه إلى 470 متر مكعب سنويا ، وفى عام 2050 مع بلوغ عدد السكان 169 مليون نسمة ينخفض نصيب الفرد من المياه مرة أخرى إلى 328 متر مكعب سنويا. وهذا المعدل يكاد لا يكفى الاستخدامات المائية عير الزراعية (المنزلية والصناعة ) ، أن هذه الاستخدامات تستنفد كل حصة مصر المائية النيلية السنوية ولا يتبقى منها للرى شىء. هذه التقديرات على ضآلتها لا تأخذ فى الاعتبار آثار متغيرين هامين ، هما سد النهضة الإثيوبى ( والسدود الإثيوبية الأخرى على النيل) والتغيرات المناخية. فإذا أخذنا فى الاعتبار تأثير السد بمفرده دون تأثير التغيرات المناخية ،ف تشير أفضل التقديرات إلى أن السد سيتسبب فى خفض حصة مصر المائية بما يتراوح بين 9-12 مليار متر مكعب سنويا ، مما يخفض نصيب الفرد من المياه إلى 380 متر مكعب فى 2030 وإلى 266 متر مكعب فى 2050 . أما التغيرات المناخية ، فكما ذكرنا سلفا ، مصر ضمن خمسة عشر دولة الأكثر تأثرا بالتغيرات المناخية فى العالم ، ثم إنها أيضا ضمن الخمس دول الأكثر تأثرا بارتفاع مستوى سطح البحر فى العالم . وتتعدد تأثيرات المناخية بين الجفاف والتصحر وزيادة الضغوط الحرارية وتملح الأراضى والتأثير على كمية المياه المتاحة وإغراق الأراضى الواطئة المنخفضة عن سطح البحر.وقد اجريت أوضحت دراسة أجرتها منظمة الأغذية والزراعة عن تأثير التغيرات المناخية على الاقتصاد المصرى ، أن حجم هذا التأثير وطبيعته سيتوقفان على السيناريو الذى ستتجه إليه التغيرات المناخية مستقبلا . وفيما يتعلق بكمية مياه النيل الواردة إلى مصر ، حددت الدراسة سيناريوهان رئيسيان ، الأول متفائل ينطوى على زيادة هذه الكمية من 55.5 مليار متر مكعب سنويا إلى 71 مليار مترمكعب سنويا ، والثانى متشائم ويقدر انخفاض الكمية إلى 35 مليار متر مكعب سنويا .وفى جميع الحالات هناك ارتفاع فى درجة الحرارة وزيادة معدل الظواهر المناخية المتطرفة .وقامت الدراسة بتقدير الأثر على بعض المؤشرات فى عام 2060 من أهمها الناتج المحلى الإجمالى الزراعى والرفاهية الاجتماعية والاستهلاك الزراعى بواسطة المستهلكين وتشغيل القوة العاملة .وسيؤدى السيناريو المتفائل (مائيا) إلى نقص الناتج المحلى الزراعى بنسبة 8%، ونقص الرفاهية بما قيمته 38 مليار جنيه ، ونقص الاستهلاك الزراعى بنسبة 5% وزيادة التشغيل بنسبة 3.1%.أما السيناريو المتشائم فسيؤدى إلى نقص الناتج المحلى الإجمالى الزراعى بنسبة النصف تقريبا (47% من مستواه المتوقع فى عام 2060) ونقص الرفاهية بما قيمته 234 مليار جنيه ، ونقص الاستهلاك الزراعى من قبل المستهلكين بنسبة 30% ونقص تشغيل القوة العاملة بنسبة 39.2% . السيناريو الأكثر كارثية على الإطلاق هوذلك الذى يجمع بين آثار سد النهضة (وغيره من السدود الإثيوبية المماثلة) وآثار التغيرات المناخية المتشائمة . وينطوى هذا السيناريو على نقص كمية مياه النيل الواردة لمصر بنحو 30 مليار متر مكعب سنويا أى بنسبة 54% من حصتها التاريخية فى عام 2060 .وذلك يعنى أن الكمية الباقية وهى 25.5 مليار متر مكعب سنويا تكفى فقط لتغطية نصف الاحتياجات المائية من الاستخدامات المنزلية والصناعة ، ويظل النصف الآخر من هذه الاحتياجات فضلا عن احتياجات الرى لقطاع الزراعة فى احتياج لإيجاد مصادر أخرى وهى فى الأغلب ستنحصر فى مياه الصرف الصحى والصناعى المعالجة فضلا عن تحلية مياه البحر ، وكلاهما يتم بتكلفة مرتفعة ، وغير اقتصادية بالنسبة لقطاع الزراعة.إلا إذا تحققت تطورات تكنولوجية تسفر عن خفض تكاليف تنقية مياه الصرف الصحى والصناعى وتحلية مياه البحر إلى مستويات اقتصادية. المجتمع بأكمله سيكون معرضا لأضرار كارثية ولكن بدرجات متفاوتة بالنسبة للقطاعات والفئات والشرائح السكانية المختلفة . فعلى مستوى القطاعات الاقتصادية ، ولأن القطاع الزراعى هو المستهلك الرئيسى للمياه ( حاليا 85% من إجمالى الاستهلاك المائى ) فسيكون أكثر القطاعات تضررا من مخاطر سد النهضة والتغيرات المناخية ، يليه قطاع الصناعة والسياحة .وعلى مستوى القطاعات السكانية سيكون السكان الزراعيون والريفيون هم الأكثر تضررا ،وربما بدرجة أقل سكان الحضر.وجدير بالملاحظة فى هذا الصدد أن نقص الإنتاج الزراعى والغذائى بنسبة تصل إلى 80% (فى 2060) سيكرس بالضرورة مشكلة اللا أمن غذائى واتساع الفجوة الغذائية وزيادة الاعتماد على الخارج فى الغذاء .وهناك سلسلة من مستتبعات هذه المخاطر من أهمها انتشار أمراض نقص الغذاء وسوء التغذية وتضرر الصحة العامة للمجتمع ككل ،ويكرس تضرر الصحة المامة زيادة معدلات تلوث المياه نتيجة لنقص إمدادات المياه ومخاطر زيادة استخدام مياه الصرف الصحى والصناعى المعالجة.ومن ناحية أخرى ، يؤدى نقص إنتاج الغذاء مع زيادة الطلب عليه (نتيجة للزيادة السكانية ) إلى ارتفاع أسعار الغذاء ، الأمر الذى يقلل من القدرة الشرائية والدخل للمستهلكين ( خاصة فى الحضر ) ،ويدفع بالمزيد من السكان إلى ما تحت مستوى خط الفقر.وكما أسلفنا ، قدرت الخسائر فى الرفاهية العامة (للمجتمع بكل أفراده منتجين ومستهلكين) بنحو 234 مليار جنيه فى 2060. وعلى مستوى الفئات السكانية ، تتباين أعباء وأضرار سد النهضة والتغيرات المناخية .ومن حيث التحليل المبدئى ، نرى أن السكان الزراعيين بمنطقة شمال الدلتا هم أكثر سكان مصر تضررا ، ذلك لأنهم سيتعرضون لنقص إمدادات مياه الرى من جانب ، وغرق المنطقة بمياه البحر من جانب آخر.فأراضى هذه المنطقة معرضة لمياه البحر فإذا لم تغرق الأراضى نتيجة لارتفاع مستوى سطح البحر ، فسوف تصاب بالتملح نتيجة لتسرب المياه فى باطنها ، خاصة إذا لم تتوافر كية مياه كافية لرى زراعات الأرز فى هذه المنطقة فى مساحة لا تقل عن 1.1 مليون فدان سنويا.فهم معرضون لفقد أصولهم الزراعية أو اضطراهم لبيعها فى أفضل الأحوال.وفى حال سيناريو الغرق سيكون سكان المدن بهذه المنطقة معرضون للضرر والتهجير ، وهناك أجزاء كبيرة من مدينة الاسكندرية فضلا عن المدن الساحلية مثل بورسعيد ورشيد ومدن القريبة من الساحل بمحافظات شمال الدلتا وخاصة أن هناك مواقع كثيرة منخفضة مستواها أقل من مستوى سطح البحر بمسافات تصل إلى 4 أمتار.العمال الزراعيون أيضا فى هذه المنطقة معرضون لفقد فرص العمل ودخولهم الأجرية إما كليا أو جزئيا نتيجة لخروج الأراضى الزراعية من الإنتاج الزراعى إما كليا (حالة الغرق)أو جزئيا (حالة التملح والتصحر).المجموعة السكانية الثالثة من حيث الهشاشة للسد والتغيرات المناخية هم السكان الزراعيون بالوجه القبلى والذين يقع نحو 70% منهم تحت خط الفقر. الفقراء عموما معرضون للمزيد من تدهور أحوالهم المعيشية نتيجة لانخفاض دخولهم الحقيقية ، وبديهى أن الفقراء فقرا مدقعا هم الأكثر تضررا يليهم الفقراء فقرا نسبيا ، ربما يليهم الفئة التى تعلو خط الفقر مباشرة والذين يلحقون بالفقراء عند أى زيادة فى الأسعار. هذه الآثار الكارثية التى تعصف بالمجتمع المصرى وطموحات التنمية بالقطع يمكن تخفيفها بتبنى ما يسمى سياسة "الأقلمة" Adaptation policy .ويتوقف نجاح هذه السياسة فى الحد من هذه الآثار على صحة تصميمها والأموال المخصصة لتنفيذها وهى تقدر بمئات المليارات من الجنيهات، ولتفصيل ذلك مقام آخر.
* أستاذ الاقتصاد الزراعى – كلية الزراعة – جامعة القاهرة