العسكر ذاهبون لا محالة، وسيناريو ثورة يوليو 1952 يبدو بعيدا، ولعلهم أول من يدرك هذه الحقيقة التي تترسخ أمام أعينهم يوما بعد آخر في هتافات ومسيرات وعروض وتصريحات يطلقها طالب في مدرسة ثانوية أو حتى شركاء المرحلة من الإسلاميين. لا العالم يقبل حكم العسكر ، ولا شعب أصبح الموت يخشاه سيلملم جراحاته ويصمت، ولا كذابو الزفة ستسعفهم التبريرات إذا طاب للعسكر البقاء في الشوارع والمدن وفضلوها على وحشة الحدود وقسوة الثكنات. سيذهب العسكر لكنهم سيتركون لنا مصر أرضا قابلة للانفجار كلما أطفأنا فيها حريقا أوقدته بقايا الفتنة والانقسام . و”الشعب المعلم” الذي يستلهم منه المجلس العسكري خطاه سيبقى رهين خطايا الجنرالات ومستشاري السوء ، بل وسوء النوايا الذي رافق المرحلة كلها وبدأت ثماره تتجلى منذ غزوة الاستفتاء على التعديلات الدستورية. منذ هذه الغزوة ، بدأ تعدد المسارات والخيارات، فإما إيمان ب “نعم” أو كفر ب “لا”. خطط المجلس لهذه القسمة الضيزى واستمرأ نتائجها فشجع تجليات أخرى غيب فيها الدولة والعدالة فأصبحت كل مشكلة محلولة بإذن الله مادام المشايخ موجودين، فهم أقدر على حل مشكلة كنيسة صول واعتصام قنا وغيرها، لأنهم يحكمون بشرع الله. شرع الله هذا كان الأرضية التي جرت عليها بعد ذلك غزوة الانتخابات البرلمانية ، فأصبح التصويت لمرشحي “الحرية والعدالة”، وبشكل أكبر “النور”، فرض عين ونصرة للدين وخطوة لإقامة دولة الإسلام قبل أن يحول “العلمانيون الكفرة” بيننا وبينها. والحمد لله أن أعاننا على قيام دولة الإسلام على أنقاض مجلس الشعب ومرابطة شباب من الإخوان على ثغورها يصدون عنها الموتورين من الثوار والمتظاهرين، وكانت البشرى الأكبر بمن أذن في النواب. إلى جوار دولة الإسلام، أقام “الوطنيون” دولتهم على وقع صراخ مصطفى بكري الذي شاءت له الأقدار أن يطلع على مؤامرات أمريكا وإسرائيل على مصر وهي مدونة في ملف أحمر على يمين مكتب أوباما. والملف الأحمر الآن في عهدة “الزعيم الوطني الشاب” توفيق عكاشة وفيه خريطة تقسيم مصر إلى أربع دول ، لا شك أن “العباسية” ستكون عاصمة إحداها وسيدخلها عكاشة والذي معه على الحمير مظفرين ليعلنوا دولتهم. ودولة عكاشة ليست ببعيدة عن دولة الخبراء الاستراتيجيين أركان النظام الإعلامي الجديد الذين انتبهوا فجأة إلى أن مصر على موعد شهري مع الحرائق ، فإن لم تحترق في 25 يناير، ففي 11 فبراير ، أو مع كل مسيرة أو مظاهرة ، حتى أرهقوا أعصاب رجال الإطفاء الذين يستنفرونهم بغير جدوى. دعك من هول المحذرين من الهلاك الاقتصادي، ودعك ممن أقاموا بخبثهم “دولة بورسعيد” بإشاعة أن المدينة محاصرة وأن القتل في انتظار من يأتي منها إلى القاهرة. ولاترهق نفسك بالتفكير في دولة الأمن الذي يتمارض ولا يسترد عافيته إلا بشم رائحة الغاز، ولا بدولة البلطجية، ولا بغيرها من الدول. الدولة العصرية الديمقراطية التي بشرنا بها “حماة الثورة”هي الآن دول شتى طرد منها ” المخربون ومدمنو الترامادول والساعون إلى الفوضى والممولون والقابضون لتخريب مصر”، والمقصود بالطبع الشباب الذين أشعلوا الثورة. هم الآن بغير هوية في المنقطة العازلة بين هذه الأمصار لا يعرفون أيها يدخلون. المشايخ رموز “الدولة الإسلامية” بكل مفرداتها وتنوع أركانها، ومصطفى بكري الذي نقل التليفزيون المصري ذات يوم احتفاله بمرور عام على إطلاق صحيفته برعاية صفوت الشريف، وتوفيق عكاشة، والخبراء الإستراتيجيون، اختصارات لمصر التي قسمها المجلس العسكري وتشهد مناطق منها تهجير عائلات قبطية بكاملها. إن لم تكن مواطنا في واحدة من هذه الدول الجديدة، فأنت عاص أو خائن أو محرض لا وطنية فيك تبيح لك الانضمام إلى هؤلاء المجاهدين ضد أمريكا الساعية لتجويعنا وتركيعنا وتقسيمنا، وكأن المصريين في عام واحد لم يجوعوا أو يُركعوا أو يُقسموا حتى كفر بعضهم بثورة لم تطعمه حتى الآن من جوع ولم تؤامنه من خوف.