عندما يتحول الجمال إلى قبح، وتطمس يد الإهمال هوية التاريخ والحضارة، وتفرط الإنسانية في آثارها، لا يصبح هناك مجال سوى الاستنكار والرفض ،وهو ما يحدث بمنطقة بئر أم سلطان التي تقع بحي البساتين بجنوب القاهرة ، تلك المنطقة الأثرية التي اشتهرت بوجود ذلك الأثر القديم الذي يعود بناءه لأكثر من 1200 عام ، حيث تحول من أقدم منشأة معمارية مائية بالتاريخ إلى مقلب للقمامة ووكر للمخدرات والتحرش والاغتصاب. الأهالي: الدولة لا تهتم إلا بالآثار التي تجلب لها مالًا يقول شريف مجدي، الشاب العشريني الذي حاول تدشين مبادرة لتنمية المنطقة، إنه فشل في تحقيق هذا الحلم، موضحًا أن حالة البئر تتدهور يومًا عن آخر، وتحول من مكان تاريخي إلى خرابة لإلقاء القمامة والمخلفات وتعاطي المخدرات والتحرش والاغتصاب. وأضاف ل "البديل" أن الحرائق تشتعل في القمامة يوميًّا؛ مما يهدد صحة أهالي المنطقة بأمراض الحساسية والصدر، في غياب الحي الذي لا يقوم إلا بإرسال سيارة لجمع القمامة من حين لآخر، مشيرًا إلى أن التعديات من جانب الورش والمقاهي التي تتخذ مكانًا ملاصقًا للأثر تهدد الشكل المعماري له. لافتًا إلى أن السور الذي يكمل القناطر أو البئر تم هدمه من جانب بعض الأهالي والتعدي عليه من جانب حركة السيارات والتوك توك وتحويله إلى ممر، متسائلًا: لصالح من يتم طمس الهوية التاريخية لمصر؟ ألا تستطيع الدولة أن تضع حارسًا من وزارة الآثار أو الأمن لحماية البئر من التعدي؟ مؤكدًا أن استمرار إهمال الدولة للبئر بهذه الطريقة سيؤدي إلى اختفائه بعد سنوات قليلة، وتفقد مصر قطعة أثرية من تاريخها. أما عن دور أعضاء مجلس النواب، فقال: لا نراهم سوى ليلة الانتخابات لاستقطاب أصوات أهالي المنطقة فقط، وبعد ذلك لا نسمع عنهم شيئًا. ومن جانبه يقول رامي عمر، صاحب محل بالجهة المقابلة لبئر أم سلطان: لم نرَ اهتمامًا من الدولة بالأثر إلا مرة واحدة عام 2009، عندما نزل فريق من وزارة الآثار للمنطقة، وقام بتنظيف وترميم البئر وإزالة القمامة من حوله، وأعلنوا وقتها للأهالي أن هناك خطة لتطوير البئر، ولكن لم يحدث ذلك، واندلعت الثورة، ولم نرَ أحدًا منذ ذلك التاريخ. واستنكر عمر غياب اهتمام الدولة بالبئر، قائلًا: واضح أن الدولة لا تهتم إلا بالآثار التي تجلب أموالًا، ولكن بئرًا بمنطقة شعبية بالبساتين لن يحقق لهم نفعًا ماديًّا، ساخرًا بقوله: البلد عندها تشبع من الآثار عشان كده تهملها. ورصدت "البديل" بجوار البئر بعض الأكشاك المبنية بالطوب الأحمر، فضلًا عن افتراش باعة الخضار والفاكهة. وقال أحمد علي، بائع خضار ل "البديل"، إنه لم يتعدَّ على الأثر، بل يساعد في تنظيفه من القمامة، مؤكدًا أن وجوده يمنع إلقاء القمامة، وأنه جمع القمامة بيده وعلى نفقته الخاصة باللودر، ونظف هذه المساحة؛ ليجلس لبيع الخضار بها، وأنه يقوم بتوعية الأهالي يوميًّا بعدم إلقاء القمامة، مشيرًا إلى أنه يدرك قيمة الآثار التاريخية ولم يسئ إليها، فهو لم يبنِ كشكًا، أو يهدم جزءًا من أحجار الأثر. ومن جانبه يقول محمد حسنين، الذي يسكن في منطقة بئر أم سلطان منذ 1992، إن أحوال المنطقة تتدهور يومًا عن آخر، فالتعديات على نهر الطريق من المقاهي والمحال بل والمواقف العشوائية للتوك توك والسيارات أصبحت مسلسلًا يوميًّا، حيث لا ترى المنطقة أي تواجد لعسكري المرور، حتى إن سلم الدائري الذي يمثل إحدى وسائل تواصل أهالي المنطقة مع العالم الخارجي قاموا ببنائه بجهودهم الذاتية دون تدخل من الحي. عالم الآثار الإسلامية: السادات السبب في اقتحام العشوائيات للمناطق الأثرية قال الدكتور مختار الكسباني، المستشار العلمي لوزير الآثار، وأستاذ الآثار الإسلامية والقبطية بجامعة القاهرة، في تصريحات خاصة ل "البديل"، إن بئر أم سلطان اثر تاريخي يعود لعصر السلطان أحمد بن طولون، ومر على بنائه أكثر من 1150 سنة، وهو بناء معماري بمثابة قناطر للمياه، عرفت باسم بئر أم سلطان، ولكن في الأصل تسمى قناطر "أحمد بن طولون"، وكانت المنطقة قديمًا معروفة باسم "بركة الحبش"، وكانت تتجمع فيها مياه الفيضان، وتُرفَع عبر السواقي على قمة البئر، ثم تسير المياه في أسوار مثل سور مجرى العيون الذي أنشئ فيما بعد، وكانت تصب هذه المياه إلى منطقة القلعة. وأوضح أن سبب التسمية يعود إلى أم السلطان شعبان بن حسين في العصر المملوكي، التي قامت بتجديد هذه القناطر، حتى تصب في ميدان السيدة عائشة؛ لتزويد الأهالي بالمياه. وعن أسباب تدهور حالة الأثر قال الكسباني إنه امتداد طبيعي للعشوائية التي سيطرت على هذه المنطقة، والتي اقتحمت المناطق الأثرية منذ عهد السادات، وأزالت "عزبة القلح" بالبساتين، حيث تعمق الأهالي بداخل هذه المناطق، ودمروا الآثار، وأصبحت منطقة بئر أم سلطان يطلق عليها الصين الشعبية. وبسؤاله عن دور وزارة الآثار، قال الكسباني إن حماية الآثار ليست مسؤولية الوزارة بمفردها، خاصة عندما تسيطر العشوائيات على المناطق الأثرية، فالقضية تحتاج إلى تكاتف جميع جهات الدولة لإنقاذ الآثار، لأن الوزارة لو جندت ألف عسكري لحماية الأثر، فلن ينقذه من العشوائيات السكنية المحيطة به. فالمسألة أكبر من اتهام وزارة الآثار أو السياحة بالتقصير، بل نحتاج إلى خطة أمنية على المدى الطويل، تقوم بخلخلة البنية السكانية في هذه المنطقة وإبعادهم في مناطق أخرى، للحفاظ على الآثار، مختتمًا أن غياب التخطيط والرؤية الاستراتيجية للدولة ترتبت عليه الكوارث التي نعيشها الآن من تخريب للمناطق الأثرية وتحويلها إلى مناطق عشوائية. وزارة الآثار: ما فيش ميزانية للتطوير كشف محمد سعيد ، مدير منطقة آثار الإمام الشافعي بجنوب القاهرة، في تصريحات خاصة ل "البديل"، أن أزمة القمامة والأكشاك التي تبنى بجوار الأثر تم مواجهتها أكثر من مرة، ونجحت الوزارة في استخراج قرار إزالة مرتين لهذه الأكشاك، وكانت آخر إزالة في نوفمبر 2016 ، إلا أن الأكشاك والتعديات عادت من جديد، مضيفًا: وعندما خاطبنا الحي وقسم البساتين لإزالتها من جديد، تم إخباري من مأمور قسم البساتين بعدم القدرة على تنفيذ ذلك، وأن الأمر يستلزم استخراج قرار إزالة جديد من الوزارة، فالقانون يمنع تنفيذ أكثر من قراري إزالة لنفس المكان. وأعرب سعيد عن استيائه من هذا الروتين الذي يعرقل حماية الأثر، مشيرًا إلى أن الوزارة لا تستطيع التحرك دون التواجد الأمني الذي يكفل لها حماية في إزالة التعديات. وأضاف أنه ينتظر استخراج قرار إزالة جديد من الوزارة؛ لمخاطبه الحي وقسم البساتين ومديرية أمن القاهرة؛ حتى يتم إزالة هذه التعديات. أما عن القمامة فقال سعيد إنه تحدث مع رئيس الحي الذي أكد له إزالتها يوميًّا باللودر، وإعادة إلقائها من جديد من جانب الأهالي. وأكد مدير منطقة آثار الشافعي ل "البديل" أن حل أزمة بئر أم سلطان لن يتم إلا من خلال إنشاء سور أو سياج حول البئر وما تبقى من سوره الحجري، مؤكدًا أن هذا السور سوف يحمي الأثر، حيث يحيط به لمسافة 10 م من كل جانب على الطريق، خاصة أن حي البساتين لا يرفض الفكرة الخاصة بإنقاذ الأثر، وأنه خاطب وزارة الآثار لبناء هذا السور، إلا أن قطاع المشروعات بالوزارة رد بعدم وجود ميزانية بالوزارة للقيام بمثل هذا التطوير. وأضاف أنه يأمل في وجود منحة أجنبية عبر بعثة تتولى مشروع تطوير بئر أم سلطان، وأن تتوفر الإمكانيات المادية لدى الوزارة والدولة؛ لتتبنى مشروع التطوير والترميم للبئر، كما حدث لسور مجرى العيون بفم الخليج. حاولت "البديل" التواصل مع المهندس عادل عبد الظاهر رئيس حي البساتين؛ للتعرف على دور الحي، ورغم مراسلته بأكثر من رسالة، لم يرد على اتصالاتنا حتى كتابة هذه السطور.