عشية انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، وبخصوص الملف السوري تحديداً، استبشر البعض بقدوم دونالد ترامب للبيت الأبيض، على أثر تصاعد الخلافات بين واشنطنوالرياض، واحتمالية تعقدها بدافع من مواقف سابقة عدائية أعلنها الرئيس الأميركي الجديد حول دور السعودية في رعاية الإرهاب وتورطها في هجمات سبتمبر2001 وترحيبه بقانون "جاستا"، ودعم المملكة لمنافسته هيلاري كلينتون وما سبق ذلك من تغلغل للمال السياسي السعودي في أروقة السياسة في العاصمة الأميركية، ويضاف إلى السابق انفتاح ترامب على موسكو وخطوطها العريضة لإدارة ملفات الشرق الأوسط بالتفاهم مع الولاياتالمتحدة، كذلك إعلانه إبان حملته الانتخابية التعاون مع مختلف القوى الإقليمية في تحقيق هدف محاربة تنظيم «داعش». هذا الإفراط في التفاؤل من جانب بعض المنتمين لمحور المقاومة حمل في طياته نزوع تشفي في أن يعاني الأميركيين وحلفائهم من وجود شخص مهووس وغوغائي مثل ترامب في البيت الأبيض، ونزعة إضافية تحمل برجماتية في كون الأخير قد يدير زاويا المصالح الأميركية في المنطقة من بوابة التوافق مع حليفة المحور السابق ذكره ورئيسها في الكرملين، وهو ما يعني حل للأزمة السورية يراعي مصالح موسكو وبالتالي يحقق مصالح حلفائها. إلا أن هؤلاء المتفائلين أغفلوا مسألة الأولويات في إرهاصات سياسات ترامب، وخاصة التي تتعلق بالشرق الأوسط، فربما صرح ترامب بعدائية تجاه السعودية، ولكنه في الوقت نفسه لم يدرجها على نفس درجة العداء مع خصمها الإقليمي الأول، إيران، والتي رهنت مدى جدية واشنطن في تنفيذ الاتفاق النووي -بغض النظر عن ساكن البيت الأبيض- بتنفيذ بنود الاتفاق، الذي دخل حيز التنفيذ قبل ما يزيد عن العام، ولكن مع تعطيل و"إيقاف تنفيذ" أميركي رهن تنفيذ الاتفاق – وحالياً نقضه وإلغاؤه- بتقويض برنامج الصواريخ الإيراني وكذلك تقليص دور إيران في المنطقة ودعمها لحركات المقاومة، وتغير سياساتها "العدائية" ضد إسرائيل وحلفاء الولاياتالمتحدة في المنطقة. السابق يشكل نقطة مفصلية توضح التباين بين توجه ترامب التوافقي حول محاربة داعش وتسوية الأزمة السورية من البوابة الروسية، وتحفظه على دور السعودية وسياساتها المختلفة، وبين انحيازه للمشتركات بين بلاده وبين الرياض وتل أبيب حول إيران ودورها والاتفاق النووي. وهنا تأتي البرجماتية والأولويات لكل من واشنطن وحلفائها في المنطقة في تنحية الخلافات وتأجيلها مع ترامب، والتركيز في الدفع ناحية تحقيق المصلحة المشتركة ضد خصم مشترك هو إيران، سواء عن طريق الاستثمار في إحداث صدع بين طهرانوموسكو فيما يخص تسوية الأزمة السورية، أو تصعيد الخلاف مع الجمهورية الإسلامية حول "الاتفاق النووي السيئ" –بتعبير ترامب- والبرنامج الصاروخي الإيراني وغيره من الملفات والقضايا إلى حد الصدام الوشيك، خاصة وأن جوهر الخلاف بين إدارة أوباما من جهة والرياض وتل أبيب من جهة أخرى أساسه سياسات هذه الإدارة تجاه طهران، وأن جوهر معارضة ترامب وإدارته وحزبه للاتفاق النووي وسياسات سلفه تتوافق مع مصالح كل من السعودية وإسرائيل. فمنذ 2009 رافق مسار جولات المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني بين طهران والقوى الدولية رغبة/طلب/إملاء أن يطرح على مائدة التفاوض ما يزيد عن الشأن النووي، سواء دور إيران الإقليمي وتصادمه مع إسرائيل والسعودية، أو البرنامج الصاروخي وخاصة الباليستي، ودعم حركات المقاومة في لبنان وغزة، وتوافق مع واشنطن في العراق ومنطقة الخليج ككل، وهو الأمر الذي رافقه أيضاً تصميم إيراني على فصل الملفات عن بعضها البعض وحصر المفاوضات في الشأن النووي فقط. وهو ما أمتد حتى توقيع الاتفاق إبريل 2015، وهو ما دفع المتحفظين عليه ورافضيه سواء داخل الولاياتالمتحدة وخارجها إلى التصريح بأن عيب الاتفاق الأساسي هو رفع العقوبات الدولية والأميركية والتي تعني في المحصلة تحول إيران إلى دولة "عادية" غير مارقة، وما يصاحب هذا من فوائد سياسية واقتصادية ستمكن الجمهورية الإسلامية من المضي قدماً نحو تعزيز مكانتها الإقليمية والدولية على مختلف الأصعدة، خاصة وأن الاتفاق تم حصره فقط في الشأن النووي، وبالتالي لم يكن الاعتراض الإسرائيلي-السعودي المشترك ضد الاتفاق النووي، والمتماس مع تحفظات الجمهوريين وترامب على فنيات وبنود الاتفاق ولكن على نتائجه السياسية والاقتصادية التي تصب في مصلحة طهران، وليس تقييد الأخيرة بالاتفاق وإجبارها –بغرض إنفاذه وبقاء البرنامج النووي- على تقويض دورها الإقليمي وتقليم أظافرها السياسية والعسكرية. ومنذ اليوم الأول لترامب كمرشح للرئاسة، وهو يؤكد على معارضته للاتفاق النووي من الزاوية سابقة الذكر، وهو ما تلاقى مع المصلحة السعودية-الإسرائيلية، وبالتالي بعد دخوله البيت الأبيض، فإن أولوية كل من تل أبيب والرياض انتقلت من تحسين وتوطيد العلاقات مع الإدارة الجديدة بشكل ثنائي –وهو الأمر البديهي بالنسبة لتل أبيب وموقف إدارة ترامب الداعم لحكومة نتنياهو- إلى توطيدها من أولوية المصلحة المشتركة في تقويض إيران، لدرجة تحذير الاستخبارات الإسرائيلية من تداعيات "خطيرة" لإلغاء الاتفاق النووي، بما يعني أن الأمر بالنسبة لتل أبيب أنتقل من دعائية "القنبلة النووية الإيرانية" إلى واقعية وبرجماتية مصلحة مشتركة مع الإدارة الجديدة في تقويض نفوذ إيران الإقليمي والضغط من أجل تحييد برنامجها الصاروخي، الذي بدأ بفرض إدارة ترامب لحزمة عقوبات جديدة ضد طهران. والسؤال البديهي هنا: ماذا بعد تعطل تنفيذ الاتفاق النووي وتقويضه بعقوبات جديدة خاصة بملفات خارج الشأن النووي تقيد تنفيذه عملياً؟ الإجابة المباشر هنا لا ترتبط بمتغير وصول ترامب للبيت الأبيض، فالأمر السابق بدأ عشية توقيع الاتفاق النووي وتسويف الإدارة الأميركية السابقة لتنفيذ تعهداتها من الاتفاق بذرائع متعددة مثل البرنامج الصاروخي، ومن جهة أخرى يجب النظر إلى الاتفاق النووي ليس كانتصار لإيران فحسب ولكن أيضاً كإنجاز للقوى الدولية حده الأدنى تجنب الحرب كبديل حتمي عن التفاوض البادئ منذ 2009، وحالياً فإن التصور الذي يُصدر في وسائل الإعلام العالمية على مختلف اتجاهاتها أن خطوات ترامب الأخيرة تعني إلغاء الاتفاق النووي وهو الأمر الغير صحيح نظراً لبديهية أن الاتفاق لم يكن منحة أميركية ولكنه اتفاق دولي بين إيران من جهة وبين الولاياتالمتحدة وروسيا والصين وألمانيا وفرنسا والاتحاد الأوربي وبريطانيا وبرعاية ومراقبة الأممالمتحدة، وبالتالي "إلغاؤه" أو بالأحرى تملص الولاياتالمتحدة منه لا يعني أنه في خبر كان. ومن المؤكد حال حدوث السابق أن تتعقد الأمور لواشنطن قبل غيرها على مستويات تبدأ من تأزم الموقف بين الأخيرة وعواصم الدول السابقة وعلى رأسها الصين وروسيا وفرنسا وألمانيا-الأخيرتين يبديان قلقهما من التقارب بين بوتين وترامب وعلاقة ذلك بمستقبل وفاعلية الاتحاد الأوربي على الساحة الدولية- وينتهي باحتمالية حرب غير محسوب عواقبها ولا مداها الزمني ولا المكاني. وفي المقابل لا يعني تملص الولاياتالمتحدة من الاتفاق بالنسبة لإيران سوى عودة إلى وضع اعتادت الجمهورية الإسلامية مع فارق أن العقوبات ستكون أميركية فقط وليست دولية أو أممية وغير ملزمة لباقي الدول الموقعة على الاتفاق النووي. أما عن تموضع كل من الرياض وتل أبيب في خارطة التوازنات والصراعات الحالية فإنه حتى كتابة هذه السطور لا يخرج عن كونه تفاؤل إعلامي سعودي يتمنى عودة المظلة السياسية والعسكرية الأميركية تخوض فيه واشنطن معارك المملكة نيابة عنها، وتخوف إسرائيلي من أن مسلك ترامب التصعيدي قد ينقلب في لحظة إلى آثار سلبية من زاوية تكرار سيناريو حرب 2006، والتي كانت في نظر إدارة بوش تصعيد أقصى بحرب غير مباشرة مع إيران قد يجبرها على التراجع عن برنامجها النووي وسياساتها في المنطقة، ولكن ما حدث بعد ما يربو عن العشر سنوات أتى على غير ما أرادته إسرائيل، بل وحصرها حالياً بين خيارين؛ سيء ممثل في استمرار الاتفاق النووي على "عواره" من وجهة نظرهم، أو أسوأ بإلغائه واحتمالية تصادم عسكري لن يكون في صالح تل أبيب وغير مضمون العواقب أيضاً بالنسبة لواشنطن.