يُنصب اليوم دونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة، سيدخل المكتب البيضاوي وأهم ملف يخص الشرق الأوسط ومصالح واشنطن في المنطقة، وآفاق دور إدارته في مباشرة سياساتها الغير واضحة ومؤكده حتى كتابة هذه السطور هو ملف تنفيذ الأتفاق النووي الإيراني؛ ليس الحل في سوريا، ولا محاربة داعش، ولا تقاسم النفوذ في المنطقة بين إدارته وموسكو. فليس من المبالغة القول أن هذا الملف هو الأساس لأرضية تفاهم وحوار حول الملفات السابقة وغيرها، فالاتفاق الذي أتى كبديل حتمي عن حرب مباشرة في منطقة مشتعلة بالأساس انتقده ترامب بسيل دعائي مهد ترشحه للرئاسة لإصلاح ما أفسدته إدارة أوباما –من وجهة نظر ترامب والجمهوريين- من سياسات واشنطن في الشرق الأوسط، وجعلت الرئيس الجديد قبل عام ونصف عند توقيع الاتفاق النهائي يصفه ب"الصفقة السيئة" وقدرته على تعديلها عند وصوله إلى البيت الأبيض. اليوم أيضاً يصادف عام على دخول الاتفاق النووي حيز التنفيذ، والذي نُفذ الإيرانيين الجانب الخاص بهم من الاتفاق منذ يناير 2016 بمراقبة وتأكيد الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والمتعلق في معظمه بفنيات البرنامج النووي الخاص بهم ومستويات تخصيب اليورانيوم ومستوى وعدد تشغيل أجهزة الطرد المركزي، وذلك استعجلاً منهم على تبيان مدى إلتزام الطرف الأخر (مجموعة 5+1) بتنفيذ تعهداته ورفع العقوبات الأممية والأوربية المتعلقة بالبرنامج النووي، والتي لم تخرج حتى الأن عن بدء التعامل من جانبهم مع إيران كدولة "عادية" لا حظر ولا عقوبات في مختلف أوجه التعاون والعلاقات الاقتصادية والدبلوماسية. إلا أن واشنطن كان لها طريق أخر لتعطيل تنفيذ الاتفاق، سواء بتطويقه بإجراءات وقوانين وعقوبات أميركية خاصة بشئون أخرى غير البرنامج النووي، أو ربط مفاعيل تنفيذ الاتفاق بأمور أخرى مثل تأخير سداد الأموال المجمدة والأصول المالية – متوسطها 40 مليار دولار- لدواعي التعويضات لحوادث سابقة مثل احتجاز الدبلوماسيين الأميركيين إبان الثورة الإيرانية، أو حتى هجمات 11 سبتمبر، وغيرها من الأمور التي تحاول واشنطن ربط تنفيذ الاتفاق النووي بها، على عكس ما تم الاتفاق عليه حتى قبل توقيع الاتفاق وأثناء المفاوضات من فصل الملفات وبحث الشأن النووي فقط. لتبدأ منذ العام الماضي مسارات قضائية وإجرائية الغرض منها المماطلة والتسويف في تنفيذ الاتفاق، قابلها إلحاح إيراني لتنفيذ الجانب الأميركي لتعهداته الخاصة بالاتفاق، وتصعيد بوتيرة ثابته لتلافي الدخول في متاهات أميركية الغرض منها تقييد البرنامج النووي الإيراني دون مقابل. وغني عن الذكر أن العام الماضي شهد جدلاً داخلياً في الكونجرس الأميركي، وعلى مستوى النُخب والساسة الذي عارضو الاتفاق النووي، والذين حاولوا تعطيله كونه "صفقة سيئة" بتعبير ترامب، فمبدئيا كانت الدعايات المضادة للاتفاق في الداخل الأميركي تتراوح بين أنه اتفاق غير مضمون التنفيذ ويهدد حلفاء وشركاء الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط -إسرائيل والسعودية- وبين أنه يسمح لإيران بتطوير قدراتها العسكرية والنووية وكذلك الاقتصادية في المدى القريب والبعيد، كون الاتفاق مرتبط بسقف زمني مدته 10 سنوات فقط وأن سير تنفيذه مرتبط بتنفيذ تعهدات أطرافه بالتبادل، وعلى رأسهم طهرانوواشنطن. وطبقاً لهذه المعادلة فإن معنى "الاتفاق السيئ" بتعبير ترامب لا يلغي كونه "اتفاق" من الممكن أن يتحول إلى "اتفاق جيد"من وجهة نظر ترامب والجمهوريين، وذلك عن طريق تدوير زوايا تنفيذه بين محاولة ربطها بطريق مباشر أو غير مباشر بملفات أخرى كالصواريخ الباليستية، وبين تنفيذ الخطوات الأميركية منه على مدى أطول قد يتخذ أعوام بمماطلة عهدتها السياسة الأميركية. إلا أنه في ذات الوقت لا يوجد إلغاء لاحتمالية تعطيل الاتفاق النووي، والتي تبدو إعلامياً ذات فرص أكبر من ذي قبل، ولكن على مستوى سياسي فإن الأمر أدق وأكثر تعقيداً من تصريحات متبادلة بين واشنطنوطهران، فعوامل الاتفاق النووي ودوافعه كانت أكبر من أن تكون ثنائية فقط بين البلدين، فخارطة الصراعات الإقليمية والدولية قد ساهمت في تشكل رؤية الاتفاق بشقيها؛ السلبي والايجابي، حتى وإن تم توقيع الاتفاق فعلياً، فإن فوز ترامب قد يؤدي إلى إحياء اعتراض شرائح من الساسة الأميركيين في الداخل، وكذا في إيران، على الاتفاق وطريقة تنفيذه، فيما تشير العوامل الإقليمية والدولية إلى أن فرص بقاء الاتفاق أكبر من ذي قبل حتى بعد انتخاب ترامب. وجدير بالذكر أن الاتفاق النووي لم يكن اتفاق ثنائي بين إيرانوالولاياتالمتحدة، ولكنه اتفاق بين القوى الدولية – مجموعة 5+1- وبرعايتها وبين إيران، حتى ولو كان ثقله الأساسي يقع بين واشنطنوطهران، فحتى مع احتمال أقصى بتعطيل الاتفاق بين الطرفين فإنه ساري بين باقي أطراف الاتفاق وطهران، وبالحد الأدنى مسألة تطوير الاستثمارات والعلاقات الاقتصادية التي بدأت بعد رفع العقوبات الدولية واستئناف العلاقات التجارية بينها وبين الدول الأوربية والآسيوية، كما أن هذه الدول لن تكون مع واشنطن في حال ميل الأخيرة لاستبدال الاتفاق بخيار التصعيد العسكري، وخاصة إذا كان دافع واشنطن الرئيسي لخوض هذه المغامرة هو ملفات مثل الصواريخ الباليستية، والتي هي ملفات خارج الاتفاق النووي بالأساس. وكنقطة أخيرة متعلقة بمستقبل الاتفاق النووي؛ فإن بعد مرور عام وأكثر على بدء سريان الاتفاق النووي، فإن الآمال المرتفعة التي سادت أروقة السياسة والإعلام حول تنفيذ الاتفاق وكأنه أمر بديهي أصبحت من الماضي، ليحل مكانها شكوك حول تنفيذ الاتفاق في ظل المماطلة والعرقلة الأميركية الذي قابله عدم ثقة وتلويح بالرد من جانب إيران، وإن ظل الطرفان حتى كتابة هذه السطور لا يريدان إسقاط الاتفاق الذي يُعد الإنجاز السياسي والدبلوماسي الأكبر منذ عقود، وإن كان ذلك لا يعني بالضرورة أن احتمالية إدارته من جانب واشنطن وتوظيفه لمصلحتها سيواجهه اصطدام مع طهران، فالخطوط الحمراء غير واضحة لهذا التعطيل والتسويف الأميركي قوبل إيرانياً بمحاولات إبعاد واشنطن عن ملفات أخرى، ففي وقت تتشابك فيه الملفات والقضايا الإقليمية والدولية وعلاقة ذلك بما أراده كل طرف من فوائد الاتفاق النووي بما في ذلك الملف السوري، وموقف طهران الأخير المُصر على إبعاد الولاياتالمتحدة من مفاوضات أستانة، فمن ناحية لم تتحرك إيران عن موقفها الخاص بعدم خلط القضايا والملفات وربط بعضها بالاتفاق النووي سواء في المفاوضات أو التنفيذ، ولكن الأن يبدو أن طهران بدأت بتدوير زوايا هذا النهج الأميركي لصالحها، لاجتراح أوراق ضغط تجبر إدارة ترامب على حلحلة تحفظاتها وإنهاء تعطيل تنفيذ الاتفاق النووي، ومن ناحية أخرى لا تزال واشنطن تسعى إلى الأمر نفسه وتؤكد عليه ولكن من زاوية مصالحها المباشرة، بل وتطوير أمر الاتفاق النووي برمته إلى ورقة ضغط على إيران بعد أن كان، وعلى مستويات عديدة، انتصاراً لها. وما يؤكد السابق أن كل من واشنطنوطهران على مستوى صناعة القرار قد اختبرا دلائل أولية متمثل في انتخاب ترامب، المُحمل بشعارات ووعود "انتخابية" تجاه الاتفاق النووي، ولكن استبقت طهران هذا الأمر بتصعيد الحذر والشك في تنفيذ الولاياتالمتحدة لالتزاماتها ببنود الاتفاق النووي، وإدارة هذه الشكوك على أساس إجهاض محاولات تحويل الاتفاق النووي لعبء سياسي، وبالتالي فإنه كما هناك أصوات في الكونجرس والبيت الأبيض تريد تغييره أو إسقاطه، فهناك في طهران نفس الأمر، بما يعني أنه إذا انتوت الإدارة الأميركي الجديدة في الاستمرار في التسويف والمماطلة فإن الحكومة الإيرانية ستتراجع عن الإجراءات التي اتخذتها في الشأن النووي، بما يعني انهيار الاتفاق عملياً، ولكن هذا الأمر يتطلب إحاطة بجميع أطراف وعوامل الاتفاق النووي وكذلك عواقب إلغاءه أو تعطيله، والتي في حدها المتوسط تعني عودة البرنامج النووي إلى سابق عهده من حيث القدرة على تخصيب اليورانيوم وعودة إنتاج البلوتونيوم وتشغيل المفاعلات النووية الإيرانية بكامل طاقتها وتطوير أجهزة الطرد المركزي، أي توسع البرنامج عما كان عليه قبل توقيع الاتفاق.. بما يعني العودة لنقطة الصفر.