بدأ في الساعات الأولى من صباح أمس سريان الاتفاق النووي بين إيران ودول (5+1)، والذي تم توقيعه نهائياً في يوليو من العام الماضي، وذلك عقب تصديق الوكالة الدولية للطاقة النووية على تنفيذ إيران للجزء المتعلق بها من الاتفاق، لتبدأ بعده فوراً إجراءات رفع العقوبات الأممية والأوربية والأميركية المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني، وبإلغائها تبدأ إيران والمنطقة مرحلة جديدة هي ناتج حتمي لبدء تنفيذ الاتفاق، تختلف عما آلت إليه تحالفات المنطقة عشية توقيع الاتفاق العام الماضي، سواء فيما يتعلق بالنواحي الاقتصادية أو السياسية، فعلى سبيل المثال لا الحصر تراجعات بورصات دول مجلس التعاون وهبط سعر برميل النفط إلى ما دون 25 دولار للبرميل، بينما تحصد إيران ثمار أولية لتنفيذ الاتفاق تتمثل في تحويل أموال وودائع مُجمدة في بنوك الخارج بسبب العقوبات تتجاوز 100 مليار دولار، هذا بخلاف فرص الاستثمار التي ستنعش وتقوي الاقتصاد الإيراني الذي يعتمد على استمرار "اقتصاد الحصار" في موازنته الجديدة للعام الحالي حتى تصبح عوائد تنفيذ الاتفاق النووي سنداً لانطلاقة اقتصادية كبرى في المستقبل القريب. خارطة التحالفات القديمة-الجديدة عشية الاتفاق النووي بدأت أطراف إقليمية على رأسها السعودية وإسرائيل في محاولة عرقلة الاتفاق النووي أو جعله أكثر شمولية بما يتجاوز الشأن النووي إلى ملفات أخرى سياسية وأمنية، وذلك للحيلولة دون اعتماد المجتمع الدولي لإيران كدولة "طبيعية" تستطيع ممارسة السياسة والاقتصاد مع جميع دول العالم بعد رفع العقوبات، وهو ما يؤهل هذه الدولة رسمياً إلى دور أكبر سواء على مستوى منطقة الخليج أو الشرق الأوسط كله، والأهم هو انتهاء العدائية بين طهران والدول الغربية فيما يتعلق بالبرنامج النووي وتحولها إلى خلافات سياسية تحدث بين الدول، وهو الأمر الذي لم تكن السياسة السعودية على سبيل المثال تحسب له حساباً، حيث اعتمدت الرياض طيلة العقود الماضية على كون هذه العدائية والعقوبات أبدية، وبالتالي فإنه سيتواجد دائماً غطاء أميركي ودولي للمملكة في صراعها مع إيران كمنافس إقليمي، وهو الحال نفسه بالنسبة لإسرائيل، بالإضافة إلى مسببات دعم الأولى لحركات المقاومة، واعتبار أن البرنامج النووي الإيراني وتداعيات رفع العقوبات سينقل إيران إلى قوة عالمية لا تستقيم معها طموحات إسرائيل الرامية إلى أن تكون الثقل الأهم والأكثر استقراراً في منطقة تعج بالصراعات والانقسامات خاصة في السنوات الخمس الأخيرة. أمام هذه التحديات، كان هناك ضرورة عشية الاتفاق النووي إلى إيجاد تراص وترتيب تحالفات إقليمية على أساس أولويات تختلف من دولة إلى أخرى، ولكن هذه الأولويات انحصرت في مواجهة إيران وتفاقم وانفلات "داعش" وإعادة ترتيب المنطقة بعد "الربيع العربي"؛ وبالنسبة للسعودية وإسرائيل كانت الأولوية القصوى طيلة العام الماضي هو مواجهة إيران، حتى أن الرياض عدلت من بوصلتها السياسية العام الماضي فيما يتعلق بترتيبات ما بعد "الربيع العربي" وتعملق دور المحور التركي-القطري-الإخواني، الذي حدا بالمملكة في 2012 و2013 إلى دعم كل ما يقلص نفوذ هذا المحور، وليس هناك أوضح من دور السعودية في ما حدث بمصر في الثلاثين من يونيو 2013، إلا أن هذه السياسة السعودية كانت مرتهنة إلى حد كبير بخلاف في ترتيب أولويات السياسة الخارجية للمملكة، فكان العام الماضي عام التحول في هذه السياسات التي بدأت بتولي الملك سلمان، والتي في جوهرها التقارب مع المحور السابق ذكره وإجبار الحلفاء على التعاطي مع هذه الأولوية وما تبعها من حرب في اليمن وتحالفات عربية وإسلامية، الغرض منها فقط حشد واصطفاف خلف السعودية أمام إيران؛ الخصم الإقليمي الذي يستعد لعقد الاتفاق التاريخي وقتها. وعلى المنوال نفسه كان هناك تقارب غير مسبوق في تاريخ العلاقات الخليجية-الإسرائيلية، تقود الرياض طرفها الأول، هذا التقارب بوصلته كانت أيضاً التصدي لإيران وتجاوز حد المشاورات والاجتماعات في الغرف المغلقة إلى تنسيق سياسي ودبلوماسي بل وحتى استخباراتي وعسكري بين هذه الدول الخليجية وعلى رأسها السعودية وبين إسرائيل، فشرعت كل من الدولتين في إستراتجية عرقلة الاتفاق، وصلت ذروتها عشية اتفاق لوزان المبدئي، واستمرت كفرصة أخيرة حتى توقيع الاتفاق النهائي، وإن تقلصت إلى مستوى تكرار دعائي مستمر منذ سنوات، وبالتالي يبقى أمام كل من الرياض وتل أبيب معضلة التعامل مع طهران الجديدة، الدولة التي تقلصت لديها موانع كانت تعرقل دول العالم والمنطقة في إقامة علاقات طبيعية معها، أقلها عقوبات فرضها مجلس الأمن والأمم المتحدة تحت البند السابع، وهو المرتكز الذي راهنت عليه السياسة السعودية-الإسرائيلية طيلة العقديين الماضيين لكبح طموح إيران المشروع في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وهنا أمام العاصمتين عشر سنوات هي عمر الاتفاق للعمل على تشويهه ومحاولة إيجاد ذرائع وشكوك حول التزام طهران به. بين المراكمة والارتجال وعلى نفس المستوى، لم يحدث تغير كبير في السابق حتى بعد بدء تنفيذ الاتفاق النووي، اللهم انتهاء مساعي عرقلة تنفيذ الاتفاق التي استمرت من إبريل الماضي وحتى أواخر الشهر الجاري، سواء بالتدخل المباشر والتشكيك في مدى التزام طهران، غير المباشر عن طريق اختلاق أزمات سياسية وسياسة قلب الطاولة؛ أخرها كان الأزمة التي اشتعلت عقب إعدام الشيخ نمر النمر وقطع العلاقات بين السعودية وعدد من الدول الأخرى وإيران. لكن التحدي الأن بالنسبة لكل من إسرائيل والسعودية هو كيفية التعاطي مع واقع جديد مفاده القبول بإيران ليس فقط كدولة "طبيعية" ليس عليها أي محاذير أممية ودولية، ولكن أيضاً كون القوى الدولية تنظر الأن إلى طهران كقوة إقليمية فاعلة وبشكل شرعي، وما لذلك من دلالات أبسطها قبول الولاياتالمتحدة بولاية إيران على أمن الخليج الفارسي، وليس أدل على هذا الأمر سوى حادثة احتجاز البحارة الأميركيين الذين اخترقوا المياه الإيرانية، وسلوك أطراف هذه الحادثة تجاهها، وهو يعني بشكل مبدأي أنه حتى الأميركيين باتوا يعترفوا ويرحبوا بالنفوذ الإيراني في الخليج ليس فقط من ناحية الحدود وترسيمها ولكن أيضاً من ناحية القدرة والقوة. هذه التحديات لم تكن الاستجابة لها من جانب الأطراف المعنية وعلى رأسها الرياض وتل أبيب وليدة اللحظة وإنما مراكمة التطورات السابقة والبناء عليها، ولكن بحكم الإخفاقات المتتالية لكل من الطرفين كان هناك تباين في ردود فعلهم على وسرعة تنفيذه، سواء فيما يتعلق في الإسراع في وتيرة التقريب بينهم وطريقة هذا التطبيع ومدى علانيته وعدم حصره على المستوى الثنائي فيما بينهم، أو ما يتعلق بالتعاطي مع الواقع الجديد الذي يبدو أنه كان يفوق توقعات الدولتين بواقع رد الفعل على أزمة إعدام النمر وحادثة البحارة من جانب واشنطن التي رمت إلى تمييع ما يحدث في سبيل إنفاذ الاتفاق وماله من أثر إيجابي داخلي وخارجي في العام الأخير للإدارة الأميركية، التي تعتبر أن الاتفاق النووي كان بديل عن حرب حتمية –وهو ما كان سيحدث بالفعل- جنبت كافة الأطراف المعنية والمنطقة خسائر لا حصر لها، وهنا كان اتجاه إسرائيل إلى المراكمة على اختياراتها الاستراتيجية السابقة، فيما ذهبت السعودية إلى مزيد من الارتجال العشوائي الذي تجلى في مساعي التصعيد سابقة الذكر. فأمام واقع يهدد إسرائيل ومصلحتها متمثل في رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران وهو ما سيترجم إلى قفزة اقتصادية وسياسية وعسكرية ستنعكس في تطور محور المقاومة ككل، وجدت تل أبيب فرصة جيدة في هذا السياق لتقوية علاقاتها مع دول الخليج، على أرضية الخطر المشترك والتسريع في إيجاد خطط مواجهة مشتركة لمواجهة هذا الواقع الجديد، وهذا الأمر له فوائد جانبية جيدة بالنسبة لإسرائيل أبسطها المزايا الاستراتيجية التي نتجت عن تقاربها مع دول مجلس التعاون الخليجي، والتي تعني بالحد الأدنى مزيد من اندماج الكيان الصهيوني في المنطقة ومن أرضية قوة وحاجة مُلحة من جانب هذه الدول. هذا بالطبع يتطلب في اللحظة الراهنة تطوير هذا التقارب والعلاقات التي تدار بشكل غير رسمي في معظم الأحيان إلى مربع العلاقات الرسمية والعلنية الواضحة والتحالف المعلن على أساس واضح يتمثل في تقاطع المصالح وهو ما يعني أيضاً ضلوع تل أبيب بدور أكبر على مستوى المنطقة من بوابة شراكتها مع هذه الدول الخليجية وعلى رأسها السعودية، والتي ذهب بدورها في الاتجاه نفسه ولكن بتلكؤ ناتج عن عدم توفر حوامل وآليات إدارة هذه العلاقات مع إسرائيل واستثمارها وأولها عدم قبول تل أبيب بمبادرة السعودية لحل القضية الفلسطينية منذ 2005؛ ومن جهة أخرى فإن أولوية الرياض حالياً هي الاستثمار في الفوضى بارتجال أزمات كمهرب للأمام إزاء الوضع الجيد الذي توصلت له طهران التي تدخل العام الجديد على أرضية صلبة قوية تؤهلها لأن تكون لها الغلبة في أي مفاوضات مقبلة سواء في اليمن أو سوريا، على عكس الأولى التي فقدت كل أوراق قوتها وتسعى لقلب الطاولة لخلق موقف جديد وبناء وتقوية تحالفاتها الإقليمية. أزمة تحالفات السعودية إلا أن السعودية تواجه معضلة خاصة، وهي أن تحالفاتها وترتيب أوراقها الإقليمية أتى كناتج عن المال السياسي الذي أغدقته المملكة على الحلفاء، والذي تجلى في تحالف "عاصفة الحزم" وما تلاه من هزليات سياسية لتحالفات عربية وإسلامية واهية تزعمتها المملكة، ناهيك عن أن السعودية تمر بظرف اقتصادي وسياسي متعثر للغاية يجعل من الفائض المالي الذي اعتمدت عليه في حشدها ضد إيران هو والعدم سواء، ومثال على ذلك العلاقات مع مصر التي لم تكن في العام الماضي بالسيولة المعتادة وشهدت تباين في الرؤى تجاه مختلف القضايا وفي القلب منها الأزمة السورية والموقف من المحور الإخواني. ذلك بخلاف النزاع الداخلي المستمر داخل البيت السعودي الحاكم، والناتج عن تراكمات صراعات انتقال الحكم إلى جيل الأحفاد من آل سعود بالإضافة إلى سوء إدارة الملك سلمان ونجله محمد لمختلف الملفات الداخلية والخارجية –حرب اليمن على سبيل المثال- التي جعلت أمراء البيت السعودي يتذمروا في العلن إلى حد "كسر الطاعة" للملك ونجله. وحتى أمام السياسة التصعيدية التي مرادها تغيير قواعد اللعبة التي تركتها واشنطن في يد حلفائها الغير قابلين لتغير توازنات المنطقة بعد الاتفاق النووي، وجدت الرياض نفسها أمام تمييع أميركي لهذا التصعيد، واعتماد معظم الحلفاء على مواقف إعلامية في جوهرها دون تحرك أو فعل على الأرض، في انتظار ما سوف تؤول إليه الأحداث في المستقبل القريب داخل المملكة وخارجها. كمحصلة عامة، فإن خارطة تحالفات المنطقة لن تبقى كما هي، بل ستطور بدافع من المتغير الأهم الكامن في الاتفاق النووي وتنفيذه، ومقدرة دول المنطقة والقوى الفاعلة فيها على استيعاب والتعاطي مع إيران ما بعد الاتفاق النووي، والتي في وجهة نظر القوى الدولية يناسبها ومشروع لها لعب أدوار حاسمة متقاطعة مع مصالح هذه القوى في ملفات مثل مواجهة الإرهاب، خاصة وأن طهران ومن ورائها موسكو ومحور المقاومة ككل نجحوا في هذا الصدد فيما فشلت فيها واشنطن والقوى الغربية طيلة العام الماضي. بخلاف نقاط القوة التي اكتسبتها إيران سواء بحكم الواقع أو بتحسن موقعها على خارطة السياسة الدولية عقب الاتفاق النووي في أي تسوية لأي من الملفات المشتعلة في المنطقة، وعلى رأسها سوريا، والتي بدأ العالم كله بما فيه دول حليفة للمملكة وإسرائيل الميل إلى جوهر الرؤية الإيرانية-الروسية للحل النهائي هناك، وبمد الخط على استقامته يصبح الحال نفسه في اليمن، وهو ما يعيد للذاكرة موقف كل من باكستان وتركيا عند شن عدوان "عاصفة الحزم" الذي نجحت إيران في تحييدهما بشكل كبير عن طريق صفقات الطاقة والتجارة، وكان ذلك قبل الوصول إلى الاتفاق النووي، وهو ما يعني أن احتمالية استمرار هذه السياسة أكبر بعد محفز الاتفاق وتنفيذه الذي في وجهة نظر العديد من الدول وحتى الحليفة للمملكة يزيل المحاذير الدولية التي كانت موجودة في السابق فيما يتعلق بالعلاقات والتعاون مع إيران، وقبل كل هذا وأهم هو مدى قدرة السعودية على الاستمرار في الحشد ضد إيران في ظل انتعاش الأخيرة الاقتصادي والسياسي وتدهور الأولى..هذا قد يجعل المملكة ظهرها إلى الحائط ويجعلها مع انتفاء تقاطع المصالح وتقلص مالها السياسي تتوجه بشكل حتمي إلى الضرب على وتر تطييف الصراع بينها وبين إيران على أرضية مذهبية، وهو ما سيخلق بالضرورة فرص استثمار سياسي مناسبة لإسرائيل.