شهد العالم في الآونة الأخيرة تحولات جذرية على كافة الأصعدة، كان لها أبلغ الأثر على المجتمع الدولي، حيث برزت على الساحة الدولية مجموعة من العوامل التي عملت على إنشاء وتكوين نظام عالمي جديد – تربعت على عرشه الولاياتالمتحدةالأمريكية- له من الخصائص والسمات والأوضاع ما لم يكن من ذي قبل، وكان من أبرزها إنهاء حقبة الاستعمار نسبيًا في صورته القديمة، وإحلال بدلاً منها الاستعمار في صورته الحديثة، التي تهدف إلى غزو واغتيال الدول اقتصادياً، عن طريق الهيمنة على رأس المال والسيطرة على وسائل الإنتاج المختلفة ووسائل التقنية والاتصالات وغيرها، لتيسير عملية السيطرة على العالم، ووضع معايير وقواعد محددة له، ينبغي أن يسير عليها ويلتزم بها. وقد نجح النظام الرأسمالي المهيمن على العالم في بلوغ آماله وتطلعاته، حيث طور وسائل السيطرة على العالم، وظهرت الأدوات الاحتكارية الخمسة الجديدة، وهي: احتكار التقنية الحديثة، واحتكار المنظمات والمؤسسات المالية العالمية، واحتكار مصادر الموارد الطبيعية حتى وإن لجأ إلى استخدام القوة العسكرية في بعض الأحيان لإحكام قبضته على هذه المصادر، واحتكار وسائل الإعلام العالمية، واحتكار التقنية العسكرية ذات القدرة على الحسم العسكري دون كلفة بشرية إن تطلب الأمر ذلك. ونتيجة لذلك استخدمت القوة الرأسمالية، وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة معقل الرأسمالية، هذه الأدوات الاحتكارية الخمسة لاغتيال الدول النامية اقتصادياً، أو بعض الدول المتقدمة، بغية تحقيق ما لا حصر له من الأهداف والمصالح، وكان من أبرز هذه الأدوات، المنظمات الاقتصادية الدولية والمؤسسات المالية، كصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، ومنظمة التجارة العالمية، فقد تعاظم دور هذه المنظمات في توجيه السياسات النقدية، خاصة السياسات التجارية للدول النامية بشكل تام وكامل يصعب معه الخلاص منه، بهدف إغراق هذه الدول في مستنقع الديون والأزمات الاقتصادية الطاحنة. وفي حال إقدام الدول على الاقتراض على سبيل المثال من صندوق النقد الدولي، الذي تهيمن عليه الدول الكبرى، للخروج من كبوتها الاقتصادية، فإنها لن تنال ذلك، بل ستظل قابعة في غياهب الديون التي يصعب في الغالب الخروج منها، لأن صندوق النقد الدولي لا يمنح القروض للدول المقترضة إلا بعد قبولها الخضوع لما يملى عليها من شروط تعسفية جائرة تستهدف تقويض اقتصادها وإخضاعها وجرها إلى مستنقع التبعية الاقتصادية التامة للولايات المتحدة ولغيرها من الدول الكبرى، التي تهيمن على هذا الصندوق وتسيره وفقاً لما يخدم أهدافها ومصالحها، ولهذا فإن قرارات هذا الصندوق هي قرارات مسيسة، لا تصدر إلا بما يتناسب مع سياسات الدول المهيمنة عليه، من أجل جعل دول العالم الثالث على وجه الخصوص في حاجة إلى الدول المسيطرة، فتظل تفرض شروطها، من أجل تحقيق المزيد من إخضاع الدول ونهب ثرواتها، وتحريكها بالكيفية التي تترأى لها. ولهذا يتم إرغام الدول المقترضة على تنفيذ كل ما يملى عليها من شروط تخريبية، بهدف السيطرة عليها سياسياً بعد السيطرة عليها اقتصادياً، لأنه من السهولة بمكان إخضاع الدول سياسياً بدون الحاجة إلى إضرام نار الحروب، إذا تم إخضاع هذه الدول اقتصادياً. ومن بين هذه الشروط، تخفيض قيمة العملة الوطنية أمام الدولار وغيره من العملات الأخرى، وإلغاء الدعم الحكومي للسلع الأساسية، وتقليص الإنفاق إلى الحد الأدنى على منظومتي التعليم والصحة، بهدف تدميرهما، وغيره من الشروط التخريبية الأخرى، والتي يطلق عليها الإجراءات التصحيحية، التي تكبل هذه الدول وتدمر اقتصادها وتدفعها نحو مزيد من التأخر والرجعية، وتباعد بينها وبين التقدم الاقتصادي. ولهذا يقدِم صندوق النقد الدولي على منح هذه الدول القروض اللازمة، مع إدراكه التام أن هذه الدول لن تتمكن في الغالب من سداد الديون، وهذا ما يريده، لأن ذلك هو السبيل الأمثل إلى تحقيق أهداف الدول التي تسيطر عليه. وبالتالي فإن الإجراءات التي تلتزم الدول المقترضة بتنفيذها على أرض الواقع، التي يفرضها عليها الصندوق كشرط جوهري للحصول على القرض، تساهم بقدر كبير في زيادة حالة الركود والخراب الاقتصادي وضعف الإنتاج والصناعة والزراعة وزيادة معدلات التضخم والبطالة وتراكم المزيد من الديون الخارجية بصورة مقلقة. مما يستتبع ذلك عدم قدرة الدول المقترضة على سداد أصل القرض وفوائده الذي يتضاعف بصورة تلقائية، وفي النهاية تعجز هذه الدول عن السداد، وتقف مشلولة الإرادة والحركة أمام صندوق النقد الدولي، مما يجعلها لقمة سائغة للدول المقرضة المهيمنة على الصندوق والتي تتجه على الفور نحو تملك الأصول السيادية لهذه الدول لاستيفاء قيمة القرض وفوائده، واستنزاف مواردها الأولية وثرواتها الطبيعية القابلة للنفاذ، ومصادرة قرارها الوطني، وهذا هو الاحتلال الغربي الحديث في ثوبه الجديد. ومن بين الأدوات الأخرى التي تستخدم لغزو الدول اقتصادياً لاحتكار مصادر الموارد الطبيعية، الشركات متعددة الجنسيات، وهي شركات دولية النشاط، ولها كيان يتعدى الحدود الإقليمية للدول التي تعمل فيها، وتسيطر هذه الشركات سيطرة كاملة على الأسواق العالمية، نظراً لقوتها التجارية والتسويقية وامتلاكها للتقنية المتطورة، وهذه الشركات معظمها شركات غربية أمريكية، نجحت في السيطرة على الاستثمار والإنتاج والتجارة الدولية والمعرفة العلمية والتكنولوجية، وساهمت بقدر كبير في تعميق فجوة الفقر في العالم، وكذلك تعميق الفجوة التكنولوجية بين الدول المتقدمة والدول النامية. وهذه الشركات أضحت تمارس دوراً مؤثراً على السياسات الاقتصادية للدول، وقامت بتهميش وتقليص سيادة الدول، وأضحت تفرض قراراتها على الاقتصاد الوطني، إذ أن هدف هذه الشركات هو السيطرة والتحكم في ثروات الدول ومواردها الاقتصادية، كما سبق وأن ذكرنا، ومعظم هذه الشركات متعددة الجنسيات يصّدق عليها مصطلح آليات النهب العالمي. ونخلص مما سبق إلى أن التطورات المتسارعة في كافة الجوانب والأنشطة والمجالات التي بات يشهدها العالم المعاصر، قد صاحبها وتزامن معها قيام الدول الاستعمارية بتطوير أساليبها ونهجها الاستعماري للسيطرة على الدول وغزوها واستعمارها بعيداً عن الوسائل التقليدية المتعارف عليها، فيما بات يعرف بالاستعمار أو الغزو الجديد، بهدف الاستيلاء على ثروات وموارد هذه الدول تحت غطاء من الشرعية الدولية.