قرأت كتابا مهما أردت أن أطلع القراء عليه.. الكتاب ل"جون بيركنز" الخبير الاقتصادى الدولى، والذى مثَّل خلال أكثر من 25 عاما وظيفة "قرصان اقتصادى"، ضمن مجموعة عمل داخل إحدى الشركات الاستشارية، التى تمثل وسيطا بين رؤساء وحكومات دول العالم الثالث من ناحية، وبين مديرى شركات اقتصادية أمريكية عملاقة، وسياسيين، وصناع قرار، يسعون لبناء إمبراطورية أمريكية عالمية أطلق عليهم مصطلح "الكربوقراطية"، أو الاغتيال الاقتصادى للأمم. الكتاب اسمه "اعترافات قرصان اقتصادى"، يحكى فيه بيركنز مذكراته، حول نهب شعوب واستعباد حكومات ويتناول أيضا كيف استطاعت الولاياتالمتحدةالامريكية أن تحوّل العالم إلى إمبراطورية تتحكم فيها. جوهرُ الكتابِ شرحٌ لأسلوب الولاياتالمتحدة الحديث فى بناء إمبراطوريتها، وإخضاع العالم لها، وهو يختلفُ عن الأسلوبِ الإمبريالى القديم فى أنه لا يتم اللجوء للقوة العسكرية إلا بعد استنفادِ وسيلتين يُسهبُ الكاتبُ فى شرحهما، قائلا: كانت وظيفتى هى أن أُشجِّعَ زعماء العالم على الوقوع فى فخ قروضٍ من مؤسسات دولية نضمن ولاءها، وبهذا يُمكننا ابتزازُهم متى شئنا لتأمين حاجاتِنا السياسية والاقتصادية والعسكرية.. فإذا رفض حاكمُ دولةٍ ما غوايةَ القتلة الاقتصاديين، تحرّك للعمل من يُسمًّوْن الواويات (بنات آوى) وهؤلاء مجرمون محترفون مهمتُهم تصفيةُ الحاكمِ العنيدِ تصفيةً جسدية، أو الإطاحةُ به والإتيانُ بحاكم مُطيع. وقد كان هذا مصيرَ جيم رُلْدُس، رئيس الإكوادور، وعمر توريجُس، رئيس بنما، اللذين اغتيلا فى حادثِ تحطم طائرتيهما واحتراقهما، أما فى العراق، كما يقولُ الكاتب، فقد فشلَ القتلةُ الاقتصاديون وبناتُ آوى جميعًا، لذلك لم تجدْ الولاياتُالمتحدة سبيلا لإخضاع هذا البلد الا باحتلاله عسكريا. قراصنة الاقتصاد Economic Hit Men أوباختصار EHM، هم خبراء اقتصاديون محترفون ذوو أجور عالية، مهمتهم سلب ملايين الدولارات من دول عديدة فى العالم بالغش والخداع لتحويل المال من هيئات المساعدات المالية الدولية والبنك الدولى وصندوق النقد الدولى وهيئة المساعدات الأمريكية USAID إلى خزائن الشركات الكبرى وجيوب حفنة من العائلات الثرية، التى تسيطر على الموارد الطبيعية للكرة الأرضية، ووسائلهم لتحقيق ذلك تشمل اصطناع التقارير المالية وتزوير الانتخابات والرشاوى والابتزاز والجنس والقتل فى زمن العولمة. وأضاف الكاتب أننا مثل نظرائنا من رجال المافيا، نؤدى بعض الخدمات، كمنح قروض لتنمية البنية التحتية، وبناء محطات لتوليد الكهرباء، ومد طرق رئيسية، وإنشاء موانئ ومطارات ومناطق صناعية، هذه القروض مشروطة بأن تتولى شركات أمريكية هندسية وإنشائية هذه المشروعات، وجوهر الموضوع هو ألا يخرج القدر الأكبر من أموال القروض من الولاياتالمتحدة، حيث تنتقل هذه الأموال البنوك فى واشنطن والغرب إلى الشركات الهندسية التابعة للولايات الأمريكية، التى تنفذ مشروعات فى هذه الدول، أى أن المال يعود بشكل مباشر تقريبًا إلى مانحى القروض وهم أعضاء منظومة الكوربوقراطية العالمية Corporatocracy، وتظل البلد التى حصلت على هذه القروض، مثقلة بهذه القروض وفوائدها وعليها أن تردها. ويحقق قرصان الاقتصاد أكبر نجاح عندما تكون القروض كبيرة لدرجة تضمن عجز الدولة المستدينة عن سداد ما عليها من ديون فى ظرف سنوات قليلة، ثم نطرح قائمة طلبات على هذه الدولة المستدينة تتضمن: السيطرة على تصويت هذه الدول فى الأممالمتحدة، لصالح قضايا معينة، أو إنشاء قواعد عسكرية، أو الهيمنة على موارد الثروة، وبالطبع يقبل المستدين طلباتنا. وكشف بركنز فى الكتاب عن جانب غير مرئى يتمثل فى تكوين مجموعة من العائلات الثرية لتصبح ذات نفوذ اقتصادى وسياسى داخل الدولة المقترضة، تعتنق أفكار ومبادئ وأهداف النخبة الأمريكية، وتصير امتدادًا لها فى هذه الدول، بحيث ترتبط سعادة ورفاهية الأثرياء الجدد بالتبعية طويلة المدى للولايات المتحدة، وذلك رغم أن عبء القروض سيحرم الفقراء من الخدمات الاجتماعية لعقود قادمة. قام الخبراء الاقتصاديون بتطويع لغتهم لتغليف عملية النهب الاقتصادى للأمم، باستخدام مفاهيم وشعارات وأرقام خادعة وبراقة ومصطلحات مثل تحرير التجارة والحكم الرشيد والتنمية، بحيث لا تصبح السياسات الاقتصادية جيدة إلا من خلال منظور الشركات الكبرى، فعلى الدول أن تقوم بخصخصة خدماتها الأساسية وبنيتها التحتية وتطويع الاقتصاد لصالح تلك الشركات الكبرى، وتقييد الأعمال الوطنية مقابل فتح الباب واسعا للشركات الإقليمية والعالمية. وتعتمد الإمبراطورية العالمية على كون الدولار يلعب دور العملة القياسية الدولية، فأمريكا هى التى يحق لها طبع الدولار فتقوم بفرض الديون والمساعدات المشروطة للدول مع علمها أن تلك الدول غير قادرة على سداد الديون، ولكن ذلك هو السبيل لتحقيق أهدافها للهيمنة على تلك الدول سياسيا واقتصاديا وعسكريا، فحرية طبع النقد الأمريكى دون غطاء من الذهب، هى التى تعطى لاستراتيجية النهب الاقتصادى قوتها، لأنها تعنى استمرارها فى تقديم قروض بالدولار لن يتم سدادها.