صندوق النقد الدولي، كما يبدو لأول وهلة، هو أحد أهم المؤسسات الدولية التي تعنى بدعم وتعزيز النظام النقدي الدولي وتقويته، ومساعدة الدول على الخروج من الأزمات الاقتصادية والمالية. حيث تقوم سياسته على إقراض الدول التي تعاني من حالات الركود الاقتصادي وتصاب بعجز في ميزان المدفوعات. وتعود الجذور التاريخية لصندوق النقد الدولي إلى سنة 1944م، حيث تبلورت فكرة إنشائه أثناء مؤتمر الأممالمتحدة الذي عقد في بريتون وودز بولاية نيوهامبشر الأمريكية، بموجب اتفاق بين ممثلين لخمس وأربعين حكومة لرسم خارطة للتعاون الاقتصادي. وتأتي معظم موارد الصندوق المخصصة للإقراض من الحصص التي يقدمها الأعضاء وعددهم أكثر من 180 دولة عضو، وتستأثر الولاياتالمتحدةالأمريكية بنصيب الأسد من هذه الحصص، إذ أن حصتها تبلغ حوالي 18% من إجمالي حصص الصندوق، ويليها بعد ذلك الدول الكبرى كألمانيا واليابان وفرنسا وغيرهم. وهناك أهداف لصندوق النقد الدولي توحي في ظاهرها أنها تستهدف تنمية اقتصاد الدول المتقدمة، ومساعدة الدول النامية المتعثرة اقتصادياً ودفعها للأمام لتجاوز كبوتها واستعادة عافيتها الاقتصادية، ولكن في باطنها فهي تستهدف استعمار وتحطيم الدول والشعوب. فالسياسة التي يتبناها صندوق النقد الدولي لتقديم القروض للدول النامية توضح بما لا يدع مجالاً للشك أن هذه السياسة لا تستهدف إلا إلحاق الخراب الاقتصادي واستعمار هذه الدول اقتصادياً، وتقويض سيادتها عن طريق إرغامها على تنفيذ العديد من الإجراءات التي تسمى بالإجراءات الإصلاحية، وهي في حقيقتها إجراءات تخريبية تخلف وراءها مزيداً من الدمار الاقتصادي والاجتماعي. ومن المؤسف، فلا تملك الدول التي ترى في الاقتراض من هذا الصندوق ملاذها الأخير، إلا الإذعان والخضوع لمشيئة وإرادة هذه الصندوق، وللشروط الجائرة التي يمليها عليها لمنحها القرض اللازم، والتي لا تخرج عن كونها شروطاً ابتزازية يلجأ إليها الصندوق مستغلاً التدهور الاقتصادي والحالة التي وصلت إليها هذه الدولة، كذريعة للمطالبة بتقديم العديد من التنازلات القاسية التي تستنزف الفقراء والبسطاء كخطوة أولية، وتعمق من أزمتها الاقتصادية، كأحد المنافذ للتدخل في شؤونها الداخلية والتحكم في قرارها واستخدامها كأداة طيعة لينة في تحقيق أهدافها. فلكي يمنح صندوق النقد الدولي القرض للدولة الراغبة في الحصول عليه، يشترط عليها إعادة هيكلة السياسة الاقتصادية المتبعة وتغيير مسارها الاقتصادي وتحرير السياسة التجارية والاستثمارية، التي تبدو كأداة للاستعمار المعاصر، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، يشترط عليها تخفيض قيمة العملة الوطنية لجعل الصادرات أرخص، وفتح الأسواق الحرة لصرف العملات الأجنبية، وإزالة القيود والعقبات على أي تعامل بالعملات الأجنبية، وإعفاء الاستثمارات الأجنبية من الضرائب والرسوم الجمركية. وكذلك إلغاء الدعم الحكومي للسلع الأساسية التي تعد شريان الحياة للفقراء والبسطاء ومحدودي الدخل على وجه العموم، والتي لا غنى عنها ولا بديل لأي مواطن من تلك الشريحة، وتخفيض الإنفاق إلى الحد الأدنى على أهم منظومتين أساسيتين لأي دولة في العالم، وهما التعليم والصحة، وتجميد الأجور، وإغلاق المصانع، وزيادة الضرائب، وتخفيض عدد الموظفين في القطاع الحكومي، وغيره من الشروط التعسفية الأخرى. وهذه الإجراءات والتدابير وغيرها والتي تعرف بالإجراءات التقشفية تزيد معدلات الفقر والبطالة وتؤدي إلى مزيد من حالات التضخم، وزيادة معدل الديون الخارجية. ولا تتوقف السياسة التعسفية والابتزازية لصندوق النقد الدولي على المرحلة الأولية لتقديم القرض، بل إن سياسته تضمن له التدخل المستمر في سياسة الدولة المقترضة، لأن تقديم القرض لا يتم على دفعة واحدة، بل يتم تقسيمه على عدة دفعات أو شرائح، وكل دفعة من هذه الدفعات تكون مشروطة بخضوع الدولة المقترضة وتنفيذها لما يملى عليها من شروط والتزامات أياً كان شكلها أو حجمها. وعندما ترفض الدولة المقترضة الالتزام بسياسات الصندوق، فإنها تكون عرضة لتوقيع العقوبات وممارسة الضغوط السياسية عليها من قبل الدول الأعضاء في الصندوق، وخاصة المساهمين الرئيسيين، كالولاياتالمتحدة وفرنسا أو غيرهم. وتبقى الغاية الرئيسية من السياسة التي يفرضها ويخط نهجها صندوق النقد الدولي، متمثلة في خدمة أهداف ومصالح الدول الرأسمالية التي تبسط نفوذها على الصندوق وفي مقدمتها الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تهيمن على حصص الصندوق، ويقع مقره في عاصمتها واشنطن، حيث تستهدف هذه السياسة الرأسمالية التي يفرضها الصندوق فتح الأبواب مشرعة أمام توطيد أركان ودعائم الفكر الاقتصادي الرأسمالي في ما لا حصر له من الدول التي تقترض من الصندوق، وإجبارها على تنفيذ هذا الفكر، والتغريد داخل السرب الذي يحقق أهداف العولمة الاقتصادية وفقاً للنموذج الرأسمالي الغربي، دون النظر لأي اعتبارات دينية أو أخلاقية أو اجتماعية. وهناك العديد من النماذج والنتائج الكارثية التي حلت بالدول المقترضة، نتيجة للشروط التعسفية والتدميرية التي فرضها عليها صندوق النقد الدولي، ومنها على سبيل المثال، بوليفيا، التي اشترط عليها صندوق النقد شروطاً تعسفية لإقراضها، لا يتسع المقام لذكرها، وكان من نتائجها الكارثية عجز الأسر الفقيرة عن شراء مياه الشرب. وكذلك تايلند، التي أدت الإجراءات التصحيحية التي فرضها عليها الصندوق إلى التسبب في تعميق أزمتها الاقتصادية وانهيار نظامها المصرفي. وذات الدمار والخراب جراء تلك السياسة لحق ببلغاريا ورومانيا والأرجنتين، ويوغسلافيا التي احتلت المرتبة السابعة في قائمة الدول الأعلى مديونية في العالم. وعطفاً على ما سبق يتبادر إلى الأذهان تساؤل في غاية الأهمية، وهو كيف أقدمت الحكومة المصرية على اتخاذ مثل هذه الخطوة التي لا يخفى على عاقل لبيب مكمن خطرها وشراسة نتائجها، أليس في تلك المنظومة التي تقود البلاد إلى حافية الهاوية من يعقل أو يعي، أم أصبح كل هؤلاء لا يرقبون فينا ولا في هذا الوطن العريق الذي أوردوه موارد التهلكة إلاّ ولا ذمة. وفي النهاية، فإن من سيدفع الثمن باهظاً جراء الإقدام على تلك الخطوة وغيرها، هم أبناء هذا الوطن والأجيال التي تليهم، ممن سيسلبون حتى مجرد الحلم بمستقبل أفضل، ولا يجدون مفراً من تلك الهيمنة الاستعمارية في ثوبها الجديد. وحقاً لقد أسمعت لو ناديت حياً … ولكن لا حياة، فمن تنادي ؟.