استودعته مصر سرها الدفين.. ميراث الحقول، وعرق الكادحين، وبراءة الأحلام، والضحكة العزيزة التي إذا انطلقت نثني وراءها علي الفور: 'خير.. اللهم اجعله خير'. هكذا كان جمال عبد الناصر.. خبيئة القدر لهذه الأرض الطيبة التي أتت به محمولًا علي سمر الأيادي، لكي تكون خطواته تاريخًا لوطنه.. ورأسه فضاءً لأنجمه.. وجسده جسرًا لفقرائه نحو الكرامة والحرية. جُبل ناصر منذ نعومة أظافره علي كراهية الظلم واستباحة المستعمر لوطنه، فردد مع أقرانه: 'ياربنا ياعزيز.. داهية تاخد الانجليز'، ولكنه أدرك أيضًا أن المصريين قد توارثوا هذه العبارة الدالة من مقولة أجدادهم إبان العصر المملوكي: 'يارب يا متجلّي.. اهلك العثملّي'، ف 'الظلم' إذًا واحد رغم تغير 'الظالم'. كما أدرك ناصر بحسه التاريخي أن الأمة هي الباقية، وأن أي فرد – مهما كان دوره ومهما بلغ إسهامه في قضايا وطنه – هو أداة لإرادة شعبية، وليس هو صانع هذه الإرادة. وانطلاقًا من حسه التاريخي، كان انحياز ناصر للأغلبية الساحقة من أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة، فهو منها.. واحد من 'ملح الأرض'.. ولذا كانت إنجازاته الأولي التي أعقبت نجاح ثورة يوليو 1952م متركزةً في إنصاف هذه الملايين من ظلم الملكية والإقطاع والاستعمار الإنجليزي معًا، إذ أعقب خلع الملك فاروق إلغاء الرتب والألقاب التي قسمت الناس درجات علي حسب ما يملكون من أموال. ثم قام بأهم خطوة نحو تحرير الفلاح المصري الذي عاني الأمرّين مئات السنين، حيث حرر لقمة عيشه وأعاد إليه أرضه وإرادته بصدور قانون الإصلاح الزراعي بعد أقل من شهرين من قيام الثورة كما جعل ناصر الفلاح ومعه أخوه العامل شريكًا في صنع الحياة السياسية، إذ دخل.. الفلاح والعامل في جميع المجالس الشعبية، والتشريعية وتم وضع بند ال '50%' للعمال والفلاحين بالبرلمان. وإذا علمنا أن مصر ما قبل ثورة يوليو.. كان نصف في المائة من سكانها يستأثر بنصف الدخل القومي كاملًا، وأن هناك ألفي فرد فقط يملكون خُمس الأراضي الزراعية قاطبةً.. لأدركنا فداحة الظلم الواقع علي أبنائها، هذا فضلًا عن الجهل والمرض والفساد المستشري في كل جوانب الحياة، وهو ما يدلل علي قيمة ما فعله ناصر وثورة يوليو للأغلبية الساحقة من أبناء مصر. الأمل لا يموت ويحضرنا في هذا السياق موقف أديب نوبل الشهير الراحل نجيب محفوظ، الذي رغم ليبراليته ومعارضته للتجربة الناصرية في أكثر من موضع، فإن ذلك لم يمنعه من قولة الحق بشأن عبد الناصر، ففي كتاب حديث لرئيس اتحاد كُتَّاب مصر محمد سلماوي بعنوان 'في حضرة نجيب محفوظ'، وفيه حوارات ممتدة لسلماوي مع محفوظ سجلها في هذا الكتاب، ومما جاء فيه أن محفوظ قدم تفسيرًا لارتباط الجماهير في مصر بعبد الناصر قائلًا: 'إن لعبد الناصر حسابًا آخر مع الجماهير لا يعتمد علي المعارك السياسية أو العسكرية التي خاضها وما كسبه فيها أو ما خسره'. ويستطرد محفوظ قائلًا عن ناصر: 'إنه: أكثر من أنصف الفقراء.. وما لم يستطع تحقيقه أعطاه لهم أملا، لذلك فالناس لا تنساه أبدا لأن الأمل لا يموت وربما كان هذا هو السبب الذي يجعل اسم عبد الناصر وصوره ترتفع في كل مظاهرة شعبية'. حكاية أم مصرية تمتلئ سيرة الزعيم بعشرات القصص الإنسانية التي تعكس انحيازه لبسطاء هذا الوطن وقد تطرقت الكتب والصحف لبعض هذه القصص باستفاضة، غير أن هناك قصصًا أخري كثيرة لم تُرو لأن شهودها إما توفاهم لله وإما لم يصل إليهم أحد وإما احتفظوا بها ك 'سرهم الثمين'.. ومنها قصة 'أم طلعت'، وهي أم عادية مثل آلاف الأمهات البسيطات الحامدات لله علي الستر والعافية. وقصتها تبدأ في عام 1959م حين وصل ابنها طلعت إلي سن التجنيد والتحق بالجيش، وفي إحدي مرات نزوله لبيته في القاهرة أثناء إحدي إجازاته الاعتيادية، مرضت أمه مرضًا شديدًا ونقلت إلي المستشفي الحكومي لتتلقي العناية الطبية اللازمة. وقد أدي هذا الظرف الطارئ إلي أن يتخلف الابن.. المجند.. عن موعد عودته لوحدته العسكرية. وحين عاد إلي وحدته كان طبيعيًا أن يُصبح معرضًا للعقاب 'الميري'. وآنئذٍ كان الجلد ما زال معمولًا به عقابًا بالجيش كأحد مواريث العسكرية المصرية القديمة حيث أُبلغ طلعت بأنه سيتعرض للجلد. وتصادف نزول أحد زملائه بالوحدة في إجازة، حيث توجه لمنزل طلعت مباشرةً مبلغًا أمه المريضة بما سوف يحدث لابنها. وهنا لم تفكر الأم كثيرًا في كيفية إنقاذه، وتوجهت علي الفور إلي منزل الرئيس جمال عبد الناصر بمنشية البكري، والذي لم يكن موجودًا هناك وقتها، وانتظرته عدة ساعات حتي عاد وصممت علي لقائه رغم محاولات سكرتارية الرئيس معرفة ماذا تريد منه. وحين علم ناصر بقصة انتظارها الطويل أمر بإدخالها عليه علي الفور، وحكت له الحكاية كاملة ومعها التقارير الطبية من المستشفي الذي عولجت فيه. وهنا طمأنها ناصر وهدأ من روعها قائلًا: لا تخافي يا أمي.. ورفع سماعة الهاتف علي قيادة الجيش وأمر بعدم عقاب المجند طلعت، ولم يكتف بذلك بل أمر بإعطائه إجازة لمدة 15 يومًا للعناية بوالدته، فضلًا عن صرف 3 جنيهات له علي الفور. وقد ظلت أم طلعت تروي قصتها مع الزعيم، باعتبارها أهم حدث في حياتها إلي أن توفاها لله. أبو أفريقيا ويحكي كبير الرواة المصريين والعرب بهاء طاهر أن هناك لحظة استوقفته كثيرًا في أواخر السبعينيات الميلادية من القرن العشرين حين مرّ بإحدي قري كينيا، إذ وجد بقالًا يعلق في دكانه الصغير صورة لعبد الناصر، فسأله أديبنا الكبير عن السبب وراء وضعه صورة الزعيم؟ فرد عليه الرجل ببساطة وهو يشير للصورة: 'هذا هو أبو أفريقيا'.. وغير بعيد عن هذا المعني ما قاله الزعيم الأفريقي الكبير 'نيلسون مانديلا' حين زار القاهرة في عام 1995م وألقي كلمة عند تكريمه في جامعة القاهرة، إذ قال بالنص: 'كان لدي موعد قد تأخر ربع قرن مع رجل رفعت رأسي من بعيد كي يراه، ثم حالت ظروف قاهرة بينه وبيني لألقاه، وحين جئت إلي مصر فقد كان من سوء حظي أن جمال عبد الناصر لم يعد هناك. سأزور في مصر ثلاثة أماكن: الأهرامات، والنيل العظيم، وضريح الرئيس جمال عبد الناصر'. شهادات منصفة في فبراير الماضي تحدثت كاثرين آشتون، المفوضة العليا للاتحاد الأوربي، في تصريحات صحفية عن الأوضاع في مصر بعد ثورة يناير العظيمة وعن النهب المنظم لثرواتها علي يد مبارك وعصابته، وكانت المفاجأة في تصريحاتها حين تحدثت عن ناصر، وهي تمثل كيان أوربا التي كانت معادية تمامًا لناصر ومشروعه القومي الاستقلالي، فقالت: 'أوربا كلها تحترم عبد الناصر لأنه كان خصمًا شريفًا تولي رئاسة مصر في أحلك ساعات التاريخ المصري ولو عاش عبد الناصر لكانت مصر دولة عظمي أكبر من روسيا في الشرق الأوسط'. وتعد تلك الشهادة مصداقًا لمقولة الشاعر العربي القديم: 'والفضل ما شهدت به الأعداء'. وفي السياق نفسه نتذكر مقولة 'موشي ديان' وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق: 'جمال عبد الناصر كان ألد أعدائنا وأكثرهم خطورة علي دولتنا ووفاته عيد لكل يهودي في العالم'. ولا نحتاج في هذا المجال أن نُذكر بأن المخلوع حسني مبارك كان 'كنزًا استراتيجيًا' للصهاينة باعترافهم، كما كان سلفه أنور السادات 'صديقًا لدولة إسرائيل' وباعترافهم أيضًا!!. أما عن شهادات المحايدين والمنصفين فهي كثيرة ومنها مقولة المفكر الفرنسي الشهير 'أندريه مالرو' حين كان يقارن ما بين ناصر وديجول: 'كلاهما واجه في عصره اختيارًا دوليًا هائلًا.. وكلاهما رفض هذا الاختيار، كلاهما قيل له: هل أنت مع أمريكا أم مع الاتحاد السوفيتي؟.. وكلاهما قال: لست مع أمريكا ولست مع الاتحاد السوفيتي - وإنما أنا مع وطني وأمتي'. أما ديجول نفسه فقال عن ناصر بعد وفاته: 'إن الرئيس جمال عبد الناصر قدم لبلاده وللعالم العربي بأسره خدمات لا نظير لها بذكائه الثاقب وقوة إرادته وشجاعته الفريدة، ذلك أنه عبر مرحلة من التاريخ أقسي وأخطر من أي مرحلة أخري. لم يتوقف عن النضال في سبيل استقلال وشرف وعظمة وطنه والعالم العربي بأسره'. النسق القيمي كان ناصر إذًا.. كالشهب التي 'كُتب عليها أن تحترق لإنارة عصورها'، علي حد وصف 'نابليون'. ورغم وفاته وهو في الثانية والخمسين من عمره، وهو عمر قصير نسبيًا بمقاييس الزمن، فإن إنجازاته كانت هائلة. ويكفي أنه أعاد اتصال مصر بأمتها العربية حيث وحدة المصير والتاريخ والجغرافيا ومنظومة القيم. وتواكب مع ذلك حرصه.. داخليًا.. علي التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستقلة، وحرصه.. خارجيًا.. علي استقلالية القرار السياسي ومن ثم الدعوة لتحرير الشعوب العربية وشعوب أفريقيا وأمريكا اللاتينية والعالم الثالث برمته وظهر كتلة عدم الانحياز. وقد أرسي عبد الناصر بذلك 'نسقًا قيميًا' غيَّر وجه الحياة المصرية وفي المحيط الإقليمي والدولي بشكل واضح، ولذا كانت المهمة الكبري لأعدائه – داخليًا وخارجيًا – هي محاولة تشويه ومن ثم تدمير هذا النسق القيمي.. وفي هذا الخصوص نتذكر ما قام به السادات من السير ب 'الأستيكة' علي خُطي ناصر، وهو ما تمادي فيه خلفه المخلوع مبارك. أما أعداء الخارج ولاسيما أمريكا، فيكفي أن نعرف أنه في أعقاب وفاة الزعيم في 28 سبتمبر 1970م عُقد بالبيت الأبيض اجتماع ل '11' من المتخصصين في الشؤون العربية والشرق أوسطية. وكان أهم ما تمخض عنه.. إستراتيجيًا.. هو كيفية تحطيم النسق القيمي الذي أرساه جمال عبد الناصر. حقيقة بازغة لمثقف عربي كبير راحل عبارة بليغة تقول: 'المساكين ثلاثة: المسيح عليه السلام، والإمام علي بن أبي طالب، وجمال عبد الناصر'، وهذه العبارة تدلل علي وعي كبير بالتاريخ والقيمة، وربما كان مشهد جنازة ناصر المهيب 'عشرة ملايين بالقاهرة فقط، فضلًا عن ملايين أخري في جميع أرجاء مصر والأمة العربية، شاركوا في هذا الحدث الجلل' خير معبر عن فداحة فقد الزعيم الذي أتي إلي الدنيا وغادرها في كفن بلا جيوب. وما زالت أصداء بكائيات وهتافات الملايين تتردد في جنبات ميدان التحرير: 'يا خالد قول لابوك 100 مليون بيودعوك'، و'ابكي ابكي يا عروبة ع اللي بناكِ طوبة طوبة'. ورغم محاولات التشويه بآلاتها الجهنمية علي مدار ما يزيد علي أربعة عقود، فلا يزال ناصر في القلوب فهو كالشمس 'حقيقةً بازغة' في مسيرة هذه الأمة. وإلي هؤلاء الكارهين والمشككين والمشوهين من باعة الأوطان وطيور الظلام: أنتم أعداء الحياة والحقيقة، ولا تستحقون إلا الشفقة، ومعها التذكير بمقولة 'ابراهام لينكولن' الشهيرة: 'خير لك أن تظل صامتًا ويظن الآخرون أنك أبله، من أن تتكلم فتؤكد تلك الظنون'.