لأول مرة منذ عبور 1973، يفرح المصريون من أعماقهم ويشعرون بالكبرياء والكرامة .. بل لقد خرجت الملايين في ميادين مصر يوم 11 فبراير 2011 لتعلن انتصارها علي دولة الفساد والاستبداد بعد نجاحها في ثورة سلمية شعبية لم يعرف العالم لها مثيلاً منذ عهود وعهود، أخرجت من المصريين أجمل ما فيهم .. وأصبح الجميع 'إيد واحدة' المثقفون والفقراء، الفنانون والفلاحون، الشيوخ والأطفال، والمسلمون والمسيحيون، والجيش والشعب، وأصبح ميدان الحرير رمزًا للثورة العالمية، يستلهم منه الثوار في كل مكان قيمة الصمود والإصرار والتصدي. وفي اليوم التالي خرجت الفتيات لتنظيم المرور، وقام الشباب في الحواري والأزقة بتجميل الطرقات وحراسة البيوت ليلاً. وأصبح الكل في واحد وشعر كل مصري أنه عملاق يتنفس لأول مرة هواءً نقيًا واختفت الرشوة، وتراجع المفسدون، ودخل الفاسدون إلي جحورهم، لكن .. لم تمر الأسابيع حتي بدأ المشهد المتوهج الأخاذ يختفي تدريجيًا، ويحل محله غبار معارك النخبة من الباحثين عن الغنائم وامتلأ المشهد بالرجعيين والانتهازيين وتكاثرت الائتلافات التي تدعي الثورية وتدفقت أموال التمويل الغامضة وانقسمت التيارات الثورية علي نفسها، وبقي الثوار الشرفاء وحدهم في الميدان يدافعون برومانتيكية عن وهج الثورة وأهدافها .. بينما الجميع كان منشغلاً بجمع الغنائم!! واحتل أغلبهم ميدان التحرير لتوظيفه لأغراضهم في معركة صراع الإرادات مع المجلس العسكري وسالت دماء كثيرة بسبب الغباء والرعونة وعدم تحديد أهداف المرحلة، فضلاً عن خيانة تيارات كثيرة وبحثها عن مصالحها الحزبية، ومعاركهم اليومية. ورغم ذلك تاجروا بدماء الشهداء وارتدوا أقنعة الثورة وتكسرت أمواج الفعل الثوري علي صخور المطامع والرغبة في الاستحواذ، ونكص الذين وعدوا عن وعودهم، وادعي الثورية من كان يطالب الشباب بترك الميدان أو من كان يكفر الخارجين علي مبارك!! وارتدي الفلول زي الثوار واختلت المعادلة، وأفشل عن عمد 'الحوار الوطني' لنصل إلي انتخابات مجلس الشعب الذي اتضح انه غير دستوري واكتشفنا جميعًا كذب الذين كانوا يدعون الثورية، واكتشفنا أيضًا رغبتهم العارمة في الانفراد بالوطن وعدم إيمانهم بالديمقراطية والتعدد، لنصل إلي الانتخابات الرئاسية لتنكشف الأنانية في أبشع صورها فإذا بالمرشحين المنتسبين للثورة يتعاركون ويتقاتلون بغباء لصالح أطراف أخري ليست في صف الثورة إن لم تكن معادية لمبادئها الديمقراطية والاجتماعية والنتيجة المحزنة هي أننا وصلنا إلي مأزق كارثي وبديلين أحلاهما مُر .. فكلا المرشحين الآن في عداء مع التقدم والحداثة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وكل منهما لا يمتلك أي رؤية علمية لصناعة المستقبل وكلاهما يؤمن بالرأسمالية وحرية السوق التي قامت الثورة ضدهما ... إنه غول الاستحواذ القبيح الذي قتل الحوار الوطني وأطاح بالفرصة الذهبية لتأسيس مجتمع ديمقراطي حديث يحقق للمصريين أحلامهم في العدالة والكرامة .. هذا الغول دفع البلاد إلي حافة الهاوية ووضع المجتمع كله علي فوهة بركان. فهل نفيق ونبدأ من جديد؟! هل نتوحد في جبهة وطنية ثورية واحدة لاستكمال الثورة خاصة أن الثورة مازالت في الشار ع والغيطان والأزقة .. هل يعي الثوار أن الشعب المصري الذكي كشف الجميع وعري الانتهازيين؟! .. مازلت مؤمنًا أنني لا أطلب المستحيل، فالثورة مستمرة، وفجر التغيير ليس ببعيد.