أصعب لحظات أي بلد.. أن يفقد عقلاء الأمة وقادة الرأي فيها البوصلة الصحيحة تجاه الوطنية الحقة ومصلحة البلاد.. وأن تغيب عن ساستها وحكمائها خطوات الطريق مهما كانت شائكة، استعجالا للوصول إلى محطة، قد لا تصل لها البلد أبدا في صراع عبثي يزيد الحيرة يوما بعد يوم.. رغم مؤشرات الاطمئنان للطريق الذي يصل بنا إلى بر الأمان.. ما نلبث أن نبدأ خطوة حتى نفاجأ بانتكاسة أسوأ مما سبقتها.. والكارثة أن يأتي ذلك ممن ارتضوا المشاركة في اللعبة السياسية ومن وافقوا على الطريق خطوة تلو الأخرى.. وإذا تعثرت مصلحتهم الشخصية في أي مرحلة أو في إحدى خطوات طريق مستقبل مصر.. نكصوا عهودهم.. وارتدوا عن استكمال المشوار، وانحرفوا بمسار الطريق.. ولبسوا ثوب الوعاظ الأحرار الثوريين.. دون أن يدروا أن المواطن المصري واع وذكي وعاشق لبلده بالفطرة.. وقادر على اكتشاف الغث من الثمين.. والثوار الأحرار من الأدعياء.. ومن يعمل لمصلحة البلد الحقيقية.. ومن ينتفض لهوى في نفسه.. من صاحب المواقف الثابتة والمبادئ النزيهة.. ومن الآخر.. موقفه حسب مصلحته.. ومبدأه يتلون ويتغير حسبما تسير الأحوال تجاه أهدافه.. في الصباح في اجتماعات سرية مغلقة.. وفي المساء مع الثوار بميدان التحرير.. في الظهيرة يتغدى مع الحكومة.. وبالليل يتعشى مع المعارضة.. عبث في عبث.. وثوار بالصوت وخانعون بالضمائر.. وطنيون بالادعاء.. "مصلحجيون" في الحقيقة.. ومصر تضيع بين أيدي الجميع.. مرة أخرى نجد أنفسنا نصرخ بكل قوة.. أين عقلاء الأمة.. أين حكماؤها.. أين ساساتها المحترمون.. أين العقل والضمير والأمانة والمسئولية..؟ ولنتفق على كلمة سواء.. حق الثوار والشعب في التظاهرات والمليونيات لاستكمال أهداف الثورة، إذا رأوا نكوصا عن التعهدات بها أو إجراءات تخالفها.. الحق مع الجميع في المطالبة بالقصاص وإعدام قتلة الثوار، وهذا حق وشرف وأمانة وواجب على كل مصري.. ولكننا ضد أي فعل أو سلوك أو رأي يبدو حقا ولكن يراد به باطل.. ضد من ينتهز الفرصة للانقلاب على كل ما رضي به أو صمت عنه، فيخرج ثائرا بعد سكون أو يتذكر فجأة دماء الشهداء، فيعترض على أحكام القضاء وهم القدوة والمثل الأعلى للتحلي بروح المسئولية واحترام مبدأ أساسي للثورة بإرساء العدالة وسيادة القانون.. لماذا نسى السادة المرشحون الخاسرون دماء الشهداء واستكمال الثورة وأهدافها.. وتذكروها بعد أن خسروا وانتهزوا ظروف الأحكام في قضية مبارك وأشعلوها فتنة وناراً؟!. كنت أتوقع أن المرشحين الخاسرين حمدين صباحي وعبدالمنعم أبوالفتوح من الفطنة أن يدركا أن كثيرا من الناس توقعت منهما ذلك.. توقعت أن ينتهزا الفرصة للانقلاب على اللعبة السياسية بأكملها.. وهو ما حدث بالفعل.. وهو موقف سحب من رصيدهما وأضرهما أكثر مما تخيلا انه سوف يفيدهما.. والمطالب التي رفعاها لا تمثل إلا انتهازية للموقف.. كل ما فعلوه التفاف على الحقيقة وإرادة الشعب.. ويريدان هدم المعبد على من فيه ليعودا للعبة من جديد.. نسيا أنهما مازالا مرشحين محتملين حتى لو بعد سنوات.. وأن المواقف الواجب اتخاذها منهما.. تختلف تماما عن التصرفات والآراء التي عبرا عنها طوال الأيام الماضية.
ماذا رفع الخاسرون في الرئاسة من مطالب؟.. الاعتراض على أحكام القضاء وإعادة محاكمة مبارك وأعوانه.. الاعتراض على نتائج الانتخابات المزورة.. رفض الجولة الثانية لانتخابات الإعادة لحين صدور قرار المحكمة الدستورية بشأن قانون العزل السياسي.. تشكيل مجلس رئاسي لإدارة البلاد. ومناقشة هذه المطالب.. تقتضي أن يجيب كل من حمدين صباحي وعبدالمنعم أبوالفتوح.. على الاسئلة التي تتردد على ألسنة الكثيرين من أبناء بر مصر.. لماذا فكرتما في خوض الانتخابات من البداية مادام هذا موقفكما؟.. ولماذا لم تفصحا عن هذا إلا بعد صدور أحكام القضاء.. وما علاقتها بهذه المطالب؟. وماذا سيكون موقف صباحي أو أبوالفتوح إذا جاءت النتائج بفوز أي منهما؟! أو أن الإعادة بينهما؟! أو لأي منهما مع مرشح آخر؟! ارفع عنكما حرج الإجابة.. لأنه بالطبع كان الرأي والموقف سيكون مغايراً تماما لما سمعناه وشهدناه منكما خلال الأيام الماضية!... التناقض واضح في المواقف والمبادئ والأراء.. والتناقض أكثر وضوحا في المطالب المطروحة.. فهل تنتظران النظر في دستورية العزل للجولة الثانية. أم تريدان مجلسا رئاسيا يقود البلاد إلى ما شاء الله، وإجراء انتخابات جديدة؟! وكيف يصوت الشعب عليكما وتخسران وتريدان ان تكونا أعضاء في المجلس الرئاسي؟! ألم يكن هذا الاقتراح مطروحا قبل إجراء الانتخابات من الأساس ورفضته قوي وطنية سياسية وحزبية وشعبية عديدة؟! فما الجديد والطريق يوشك أن يكتمل، إذا شاء الله أن نصل إلى خطوة النهاية، وإن لم نعد إلى نقطة الصفر حسب تطورات الأحداث في الأيام القادمة، والمعلقة برأي المحكمة الدستورية، وإن لم تهدأ الخلافات المتصاعدة بين جميع مؤسسات الدولة وخاصة الأزمة بين السلطة القضائية والسلطة التشريعية.. وهي الأزمة التي كان لاشتعال التحرير وغيره من ميادين مصر دور بارز في انتقالها إلى داخل مجلس الشعب وحديث الحماس الذي خرج عن التقاليد بشأن القضاء.. ولا يعترض أحد على التحرك الطبيعي التلقائي للشباب للتعبير عن غضبهم من الأحكام.. ولكن الاعتراض على إثارة المشاعر بالمزايدات الدعائية للمرشحين الخاسرين وانتهازية الدعاية الانتخابية.. نتفهم جميعا المشاعر المتأججة من الائتلافات الثورية ولكننا نرفض المزايدات والانتهازية التي خلطت بين إرساء قواعد العدالة وهيبة القضاء والثقة في أحكامه.. وبين استغلال الموقف لأهداف شخصية.. ومن أشخاص نثق فيهم ونقدرهم.. من المفروض ان تعصبهم لمصر ولقضايا الوطن.. ومن أشخاص رفضوا سابقا موقف مريدي وأتباع الشيخ حازم صلاح أبواسماعيل عندما تظاهروا واعتصموا رفضا لقرار استبعاده من سباق الترشح للرئاسة.. ولكن المؤسف أن الجميع اليوم كلهم حازميون. مصر أصبحت خارج الصراع.. والوطنية أصبحت شعاراً حسب الحاجة.. والولاء أصبح للمصلحة.. كل فريق يتصيد من الظروف والأحداث ما يخدم مصالحه حتى لو أشعلها ناراً.. أو عادت بنا التساؤلات الحائرة إلى المتاهات مرة أخرى.. أو قادتنا إلى مجهول لن يبقي على أي بادرة أمل في الانطلاق بمصر سريعا نحو الديمقراطية الحقة.. والأمان والاستقرار المنشود.. والبناء والتطور المأمول.. أو تحويل شعارات الثورة إلى واقع.. عيش.. حرية.. كرامة.. قانون.. ديمقراطية.. عدالة اجتماعية. يا ناس لا تعودوا بمصر إلى الوراء.. ولا تقودوها إلى المجهول..؟!
تبقى كلمة حق لخاسر آخر في الانتخابات.. هل تابعتم مواقف وآراء عمرو موسى بعد الجولة الأولى؟. تذكروا ما قاله في المؤتمر الصحفي، والذي عبر فيه عن قناعته بنتائج الانتخابات، وتقديره للناخبين الذين خرجوا للإدلاء بأصواتهم وأشاد ببدايات تجربة مصر الديمقراطية وحرصه على استمرارها ونجاحها.. وتأكيده على استمرار عطائه كمواطن مصري في العمل الوطني لصالح مصر.. كل مواقف وتصريحات عمرو موسى عبرت عن احترام بالغ ومشاركة إيجابية وكانت بداياتها وثيقة العهد. هذا هو الفرق بين آخرين ورجل الدولة.. المؤمن حقا وفعلا بالديمقراطية.. رجل الدولة الذي يعي المسئولية الوطنية.. الذي يقدر الظروف السياسية والاقتصادية والأمنية للبلد.. ويشعر بآلام المواطن التي لمسها خلال جولاته الانتخابية.. انتهى الدرس..! نقلا عن جريدة أخبار اليوم