يتمحور المنجز الشعري للأبنودي '1939-2015'، بشكل أساسيّ، حول 'الصوت' بكل طاقاته السحرية، ليس فقط أصوات المطربين الذين طارت قصائده من خلال حناجرهم إلي كافة أرجاء مصر والوطن العربي والعالم، وحتي أضيق الزوايا في الكفور والنجوع في كل ربوع مصر عبر أثير الإذاعة المصرية، ليس هذا فحسب ولكني أقصد بشكل رئيس 'صوت' الأبنودي نفسه، الذي عاد بالشعر إلي ينابيعه السحرية الأولي وإلي وظيفته الأولي حيث عصور الإنشاد والإصغاء إلي الشعر من مصدره الأصيل، الشاعر نفسه، فالأبنودي هو الشاعر الوحيد في العصر الحديث - فيما أعلم - الذي أبدع ظاهرة الدواوين الصوتية الموازية لدواوينه الشعرية المكتوبة، وهي ظاهرة لم يسبقه إليها شاعر من قبل. هذه الدواوين المسموعة خلّدت صوته الشعري الأصيل المعبر، الذي انحفر واستقر في الوجدانات والقلوب والأسماع والذواكر إلي الأبد. تجلت عبقرية 'الأبنودي' إذن في اعتماده علي 'الصوت' باعتباره عماد عملية الإنشاد والتلقي الشعري الشفاهي. فمن خلال هذا 'الصوت' تعبر الكلمة الموزونة المموسقة إلي متلقيها، محمّلة بكل الحمولات الشعورية، ذلك، علاوة علي ما يمتاز به 'الصوت' من خاصية 'الشمولية'، فهو يخاطب جمهورا غفيرا في لحظة واحدة، ويُحدث تأثيره الشامل في اللحظة نفسها، لأن النظام الصوتي، كما يري 'والتر أونج' في كتاب 'الشفاهية والكتابية'، ' يفضي إلي التوحيد وإلي الاتجاه نحو المركز ونحو الداخل. والنظام اللغوي الذي يسود فيه الصوت يتفق مع الميول التجميعية ' المساعدة علي الائتلاف'.. وهو يتفق كذلك مع النظرة الكلية المحافظة...ومع التفكير المواقفي ' المرتبط بالنظرة الكلية أيضا، حيث يكون الفعل الإنسانيّ في المركز' أكثر من اتفاقه مع التفكير المجرد'. وهذا هو، في تصوري، لب مشروع 'عبد الرحمن الأبنودي' الشعري المصري والقومي والإنساني: أن تلتف الأمة حول قضاياها الكبري، عبر صوته الشعريّ، الذي أصبح صوت وجدانها الموحد لكلمتها، والجامع لشملها. لقد غني 'الأبنودي' للقدس، مهدهدا ومواسيا جراحها الناغرة، وناعيا تخاذل الجميع عنها والتقريط في شرفها، ومستحثا العزائم والهمم لنجدتها ونصرتها، وكذلك غني 'الابنودي' لبغداد حين سقطت علي أيدي التتار الجدد، الأمريكان.وكتب ديوان 'الاستعمار العربي' مهاجما غزو العراق للكويت. وسجل أحداث ثورة 25 يناير، كواحد من أبنائها ومفجّريها، في قصيدة 'الميدان'.. وهكذا هو 'الأبنودي' دائما لا يكون إلا حيث يكون الناس، هو 'صوتهم'، وهو صانع أهازيجهم عند الفرح، وهو مسيحهم الذي يمسح علي أوجاعهم، ويبدد همومهم عندما تتنكر السماء ويكفهر وجهها، وهو مهمازهم عندما تتخاذل منهم الهمم وتخور العزائم، وهو قبل كل ذلك وبعده 'منشدهم' الذي يتحلقون حوله ويستمعون إليه منصتين في خشوع ومحبة وإجلال.. وكأنما يستمعون إلي صوت مقدس!!