بدءا من ديوانه الأول «الأرض والعيال» فى العام 1964 بدا عبدالرحمن الأبنودى صوتا للمقموعين والبسطاء، فاعتبره المصريون غناءهم النبيل، وشعرهم الفاتن، ومجاز حيواتهم اليومية المثقلة بالهزائم والخيبات، والمعبأة بروائح الأمل والمقاومة والقدرة على النهوض، وكانت «جوابات حراجى القط» تعبيرا جماليا يصاحب المصريين فى الحل والترحال، والمشاركة الإبداعية اللافتة للتأريخ للحظة حيوية فى عمر الأمة المصرية، وأعنى بناء السد العالي، عبر الخطابات «الجوابات» التى كان يرسلها عامل من آحاد الناس إلى زوجته، ومثلما بدت دواوين، مثل: «عماليات» و«الزحمة»، ومن قبل: «جوابات حراجى القط» و«الأرض والعيال» بمنزلة الدفقة الأولى فى مسيرة الأبنودى الشعرية، تلك التى اتسمت بقدر هائل من الصدق الفنى من جهة، وهيمنة الشفاهية من جهة ثانية، وإن ظلت الشفاهية أداة ناجعة فى رؤية العالم لدى الشاعر الراحل، كما رأينا مثلا فى ديوانه «أحمد سماعين»، فكان عبدالرحمن يكتب عن أولئك المهمشين، معبرا عن أمانيهم البسيطة، وأحزانهم العادية، منبئا عن عالم يحيا دوما على الحافة، لكنه يأتى فيقربه لنا، ويجعله بطلا، ويمنحه سمتى الخلود والفرادة. وقد تفاوت حضور الشفاهية من مرحلة لأخرى داخل المتن الشعرى لنصوص الأبنودى المختلفة، فقد خفت حضورها مثلا فى النصوص التى اتسمت بوعى تقنى أشد، ورغبة أمضى فى دفع قصيدة العامية لأفق أكثر رحابة، كما بدا مثلا فى ديوانه اللافت «الفصول»، والذى يمكن لنا بمجرد الوقوف على تقسيمات الديوان ذاته أن نقف على تحول تقنى لافت فى أعماله، ووعيه الجمالى بأهمية التجديد فى نص العامية وخلق مراكمة نوعية لا كمية داخله، ولعلى أشير مثلا إلى قصيدة «الأشياء» والتى بدا فيها معنيا بالتفاصيل الصغيرة وأنسنة المعنى داخل النص، على نحو أجمله فى جملة شعرية بديعة ودالة فى آن: «ما أتعس موت الأشياء»، أو فى مقطعه التالى الفارق، والحاوى توظيفا دالا لمشهدية بصرية ضافية ورهيفة فى آن: «والزمن إن جف/ ولا يصبح للأشياء ضحكة ولا روح ولا كف/ بَرْد الموت يتَّاوب فى الحجرات/ تمشى ف بيتك بين جدران وحاجات/ أموات/ لا الساعة تدق/ ولا تفِر النسمة كتابك/ ولا تتْبَسِّم ع الحيط/ ولا تفضل زعلانة الرسومات/ فى شعاع الشمس الداخل م الشبابيك/ تِصْفَرّ وشوش الناس المحبوبة إليك/ اللى معلقهم حواليك / وكإن العالم مرسوم أو مطبوع/ وكإنه مقطوع الشريان / يدبل تحت الشمس الشمع كإنه/ أشياء ثابتة وجدران». لم يكن المشروع الشعرى لعبدالرحمن الأبنودى إذن كتلة واحدة، بل ثمة تنويعات مختلفة داخله، فالتجربة اللافتة فى «وجوه على الشط» والتى ترصد لحظة فارقة من عمر الحياة المصرية، حيث التهجير من مدن القناة عقب نكسة الصيف السابع والستين، ومحاولة استنهاض الهمة المصرية عبر حرب الاستنزاف التى مهدت للعبور التاريخى فى عام 1973، ففى «وجوه على الشط» يقدم لنا الشاعر البشر الحقيقيين، الوجوه التى أنهكتها القسوة المفرطة للحياة، لكنها لم تزل تتمسك بروح الوهج المقاوم، هنا سنجد حضورا فاتنا لشخوص مختلفين ومتنوعين: «إبراهيم أبوالعيون، جمالات، محمد عبدالمولي، عيد زعزوع»، وجميعهم شخوص يتجاوزون ذواتهم الفردية ليعبروا عن ذات جماعية مأزومة ومقبلة على الحياة فى آن، فى لحظة مفصلية من عمر الأمم والشعوب، وهى لحظة الحرب، والتى تصبح بمنزلة اللحظة الكاشفة والمنبئة عن ذلك الجوهر الثرى للإنسان بتناقضاته وتحولاته ومخزونه الحياتى الوافر من الخبرات والانكسارات والهزائم المجانية، مع حضور مختلف لتلك البهجة العابرة والفرح المدهش، والذكريات التى تستعصى على الموت والنسيان. بدا ما يعرف بجدل الأيديولوجى والجمالى على نحو بارز فى ديوان «الموت على الأسفلت»، والذى أهداه الشاعر إلى الانتفاضة الفلسطينية وللفنان الشهيد ناجى العلي، وبدت القصيدة هنا عند الأبنودى أكثر حدة وصخبا، متسائلا عن جدوى القصيدة فى عالم يسكنه القهر، وتهيمن عليه قوة السلاح، غير أن الأبنودى لم يزل مؤمنا بجدوى الكتابة بوصفها شكلا من شكول المقاومة، ومحاولة للانتصار لكل ما هو إنسانى وحر. إنها تعرى القبح الذى تكرس له كل التحالفات القذرة بين الرجعية والاستعمار، كما تفضح الاستبداد وتسائله: «القصيدة توصف الدم الذكي/ ما تشيلش نقطة/ توصف الأم اللى ماتت بنتها قدام عينيها/ بس وصف/ وصف جيد….وصف خايب/ وصف صادق….وصف كاذب/ فى النهاية….كله وصف/ كل شعر الوصف/ مايساويش فى سوق الحق صرخة/ الكلام عن كل ده/ شيء من التطاول/ إنما…..لازم نحاول». ومثلما ارتحل الأبنودى فى شعره محققا تنويعات مختلفة داخل متن قصائده، بدت الأغانى التى كتبها ارتحالا فنيا أيضا بين سياقات متعددة، يمتزج فيها المعنى السياسى بالعاطفي، وتحضر الأغانى الموثقة لفترات مأزومة وفارقة فى حياة المصريين على نحو ما رأينا فى الأغانى التى كتبها للراحل الفذ عبدالحليم حافظ، من قبيل »أحلف بسماها وبترابها/ عدى النهار«، أو نجد لديه مداعبة للوجدان الشعبى على نحو ما صنع فى أغانى المطرب الشعبى محمد رشدى » تحت الشجر يا وهيبة/ عدوية/ عرباوي«، أو يغزل المعنى الرومانسى مصحوبا بصوت شادية الوثاب » آه يا اسمرانى اللون«، أو بوعى صباح الفطرى بالأنوثة فى » ساعات.. ساعات«، ووصولا إلى صوتى على الحجار ومحمد منير، والممثلين لجيلين مختلفين فى جدارية الأغنية المصرية، وبما يحملانه من تنوع خلاق، ومميز فى آن. ارتبط الأبنودى بمشروع الدولة الوطنية دوما، فى أوج صعودها وقوتها » المشروع الناصري«، وفى لحظات ترهلها وضعفها« فيما بعد 1974«، لكن ذلك لم ينل من حالة التلقى الإيجابى لنصوصه المختلفة، فيما يعد فصلا بين الشخصى والموضوعي، لجانب غير قليل من جمهرة المتلقين، الذين رأوا فى الأبنودى موهبة استثنائية بحق. وبعد.. كان الأبنودى معنيا بسؤال الوطن بوصفه سؤالا للقصيدة ذاتها، وبدا التعبير عن ناس الوطن تعبيرا جماليا عن جملة من المقولات الكبرى التى آمن بها فتى جنوبى أسمر قادم من أعماق قرانا البعيدة، لينحت اسمه ورسمه فى وجدان ناسه وشعبه، مشغولا بكفاح المصريين اليومي، وواعيا بجدل الخاص والعام، وبقدرة الشعر على أن يطرح الأسئلة الكبرى بعد أن ينفذ إلى سيكولوجية المتلقي، هذا المتلقى العام تحديدا، الذى قصده الأبنودى رأسا منذ قرر أن تكون العامية خياره الجمالى وبغيته الأساسية، وأداته المركزية فى طرح رؤيته للعالم . وفى كل يبقى عبدالرحمن الأبنودى حالة فريدة فى مسار الشعر العامى والغنائى المصريين، وترميزا على حالة شعبية وفنية بامتياز. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله