رغم أن الحركة الصهيونية قد حددت معالم مشروعها السياسي في المؤتمر الصهيوني الأول 'بال سويسرا 1897'، واستطاعت أن تجسد هذا المشروع في العام 1948، تنفيذاً لوعد وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور، '2 نوفمبر 1917'، والذي تواطأت عليه دول الحلفاء المنتصرة في الحرب العالمية الأولي، في ختام أعمال مؤتمر سان ريمو ' أبريل 1920'، وبموجبه تم وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، ليصار إلي تنفيذ 'وعد بلفور'، الذي اعتبر وثيقة سياسية من وثائق المؤتمر بدعم أميركي فرنسي، إلا أن إسرائيل التي ولدت من رحم المشروع وورِثته ترفض حتي الآن وضع حد لسياساتها الاستيطانية التوسعية، ويخلط خطابها السياسي والإيديولوجي بين ما يسمي 'الحدود التاريخية'، وما يسمي 'الحدود الآمنة والمجال الحيوي'، للاستفادة قدر الإمكان من اختلال ميزان القوي الإقليمي والعالمي لبلوغ الحد الأقصي من الحدود التوسعية. وتواصل إسرائيل إنكار الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، الأمر الذي يبقي الصراع متأججاً، ويغذيه بمزيد من ممارسات الاحتلال الإسرائيلي الدموية والقمعية والاستيطانية، التي ينطبق عليها صفة جرائم حرب. حيث مازالت الحكومات الإسرائيلية تمارس سياساتها الاستيطانية، تارة تحت إدعاءات إيديولوجية تستند إلي مزاعم مثيولوجية حول 'حق تاريخي- إلهي'، وتارة أخري تحت مزاعم 'الحق المشروع في الدفاع عن النفس'، و'الحق في حدود آمنة يمكن الدفاع عنها' في مواجهة 'الخطر المصيري' الذي يتهددها. وكلها إدعاءات باطلة تريد منها إسرائيل تزوير الحقائق التاريخية والمعاشة، وتبرير سياسات احتلالها وتوسيع عمليات الاستيطان الاستعماري في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة عام 1967، علي حساب ما تبقي من أرض بأيدي أصحابها الفلسطينيين، والتمدد إلي أراضي دول الجوار العربية، غير آبهة بالقانون الدولي، أو المواثيق والأعراف الدولية. وهذا هو التحدي الأكبر الذي واجهته جهود التسوية السياسية منذ العام 1948، بتعارض مبدأ توظيف القوة العسكرية الإسرائيلية الغاشمة، لتوسيع رقعة الاحتلال وفرض وقائع علي الأرض ومكاسب سياسية، ومبدأ تسوية دبلوماسية متوازنة علي أساس القرارات الدولية ذات الصلة بالصراع العربي والفلسطيني- الإسرائيلي، والتي يفترض حسب ميثاق هيئة الأممالمتحدة أن تعبر عن قانون رضائي وملزم في آن، مصدره رضا الدول الأعضاء في الجماعة الدولية، والإخلال بهذا المبدأ يخرج الدولة المخلة به من الجماعة الدولية، لذلك ليس من الجائز أن تضع أي دولة سياساتها في تعارض مع الإرادة الدولية الجماعية، أو علي حساب حقوق شعب من الشعوب غير قابلة للتصرف. ومن حقائق الصراع التي لا يمكن تجاهلها هي عدم صحة حصر الصراع العربي والفلسطيني- الإسرائيلي في نسق ميزان القوي في منطقة الشرق الأوسط، وفصله عن نسق ميزان القوي الدولي السابق أو الراهن، أو معالجة هذا الصراع بعيداً عن بعده الإستراتيجي الدولي، خاصة بعد انحلال الاتحاد السوفيتي، وبروز القطبية الأحادية الأميركية، التي جعلت من الإيديولوجية التوسعية الإسرائيلية أحد مرتكزات 'إيديولوجية المجال الحيوي الأميركي'، و'قوس المصالح الأميركية' كما صورتها إيديولوجية المحافظين الجدد بنزعتها العسكرية، لتبرير غزو العراق واحتلاله، مقدمة لجعله منصة انطلاق لإعادة فك وتركيب منطقة الشرق الأوسط وبلدانها، وإلحاقها نهائياً بعجلة التبعية الأميركية، وإعطاء إسرائيل دوراً قيادياً فيها من موقع الشريك الإستراتيجي الثابت، والتواطؤ معها في توسيع رقعتها الإقليمية، من خلال تأبيد الاحتلال وفرض الاستيطان كأمر واقع. وفي ضوء ما تقدم، فإن بقاء القطبية الأحادية الأميركية، التي بدأت تنحسر نوعاً ما، والاستفراد الأميركي الموظف لصالح إسرائيل، يضفي علي الصراع العربي والفلسطيني- الإسرائيلية درجة عالية من الصعوبة، ويقوض خلق فرص جدية لإيجاد تسوية سياسة شاملة متوازنة، ولا يمكن زحزحة هذه الحقيقة المُرَّة إلا بإعادة توزيع جوهري للقوي وأدوارها في النسق الدولي العالمي الراهن، لفرض معادلة دولية تفضي لتسليم الولاياتالمتحدة الأميركية وحليفتها إسرائيل بتسوية سياسية شاملة ومتوازنة للصراع في منطقة الشرق الأوسط ترسي حلاً قابلاً للحياة، وينهي ستة عقود من الحروب والمآسي التي حلت بالشعب الفلسطيني، وباقي شعوب المنطقة، جراء السياسات التوسعية والعدوانية العسكرية الإسرائيلية. ولن يتحقق هذا إلا من خلال الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني بإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدسالشرقية، وتمكينه من ذلك بالإضافة إلي باقي الحقوق التي أقرتها القرارات الدولية ذات الصلة بالصراع العربي والفلسطيني- الإسرائيلي. وفي هذا الصدد، علي المجموعة الدولية التي كان لنسق قواها في العام 1948 العامل الرئيسي في منعطف المأساة الفلسطينية، ووقوع النكبة الوطنية الكبري لأبناء الشعب الفلسطيني، أن تأخذ دورها لإنصاف الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، ووقف مأساته التي أدخلت المنطقة في دوامة من الحروب والصراعات الدموية، لن تتوقف إلا بوضع حد لمشاريع شطب فلسطين نهائياً من الخارطة الجغرافية الإقليميةً، وتذويب الهوية الوطنية لشعبها. وبداية الإنصاف تحميل إسرائيل مسؤوليتها عن إفشال كل الحلول والتسويات السياسية للصراع، التي طرحت إلي يومنا هذا، بإصرارها علي مواصلة الاستيطان والتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني. ولعل هذه الحقيقة هي بوابة الإجابة علي كافة التساؤلات المطروحة حول استمرار الصراع الفلسطيني والعربي - الإسرائيلي علي امتداد ما يقارب قرن من الزمن، والدور السلبي الذي لعبته الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية الغربية الكبري منذ إطلاق اللورد بلفور ل'وعده بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين'.