ككل إجراء غشيم تم ارتكابه منذ 25 فبراير حتي اليوم، أثارت مداهمة مراكز حقوق الإنسان الممولة أجنبيًا صخبًا كبيرًا. ومن المؤكد أن الطرفين لم يكونا مستعدين لكي يسمع أحدهما الآخر. المعتدي عليهم يتناولون القضية من حيث الشكل والمضمون: شكلاً الإفراط في استخدام القوة، ومضمونًا مشروعية التمويل من عدمها. والنظام ومشايعوه علي الجانب الآخر يصرخون: يا قوم! هذه عمالة للأجنبي، ويسألون ثم يجيبون بأنفسهم: لماذا تدفع أمريكا هذه الملايين أليس للتخريب؟! بلي للتخريب لأنها دولة عدوة! من يصدق أنهم يعتبرون أمريكا عدوًا؟! العديد من البرامج التليفزيونية تناولت القضية في الأيام العشرة الماضية، ويجب علي المواطن الذي يريد الحفاظ علي عقله ألا يصدق التليفزيون، لأن هذه الوسيلة خلقت حتي لا تقول شيئًا علي الرغم من أنها تمتليء بالكلام علي مدار الأربع وعشرين ساعة، ذلك لأن طبيعتها في تقطيع الكلام لا تصل بأية فكرة إلي بر الأمان. حتي المتحدث نفسه يفقد السيطرة علي ما أعده من أفكار تحت إلحاح المذيع علي الاختصار، بينما يراوغ المتحدثون حتي لا يجيبوا علي المطلوب ويلخمون المذيع والمشاهد بصرخة في واد آخر. علي قناة البي بي سي العربية سألت المذيعة مشايعًا للحكومة: ألم تكن المداهمة عنيفة؟ والمطلوب في هذه الحالة أن يقول شيئًا عن الشكل الذي تم به تفتيش المكاتب، ليقول إنه كان ضروريًا وإنهم مجرمون خطرون توقعنا منهم المقاومة أو ليقول إن الإجراء كان بالفعل عنيفًا. ولكنه بدلاً من ذلك أخذ في الصراخ: يا ناس! هل تقبل أمريكا بأن تعمل مثل هذه المنظمات علي أرضها من دون ترخيص؟! هل يقبل مصري أن يُقتطع 150 مليون دولار من المعونة المخصصة لمصر وتعطي للمنظمات الأهلية؟ الإجابة في مجال آخر، ومن حق المشاهد أن يسأله: وهل تعيش حكومة أمريكا علي المعونات؟! والأهم هو: هل قرار توزيع مبالغ المعونة يكون بيد المانح أم بيد متلقي الصدقة؟ الأسئلة الأساسية، انطرحت وتم الزوغان من الإجابة عليها، وهي ليست بالكثيرة. وأهمها هل التمويل جائز أم حرام؟ وما مصلحة المانحين في بعزقة أموالهم علي الحكومات الحليفة والمنظمات الأهلية في بلاها؟ أهم ما في الموضوع هو الحق الأخلاقي والقانوني في تلقي الأموال بشكل عام وحق الحكومة في تحليل المعونة لنفسها وتحريمها علي مؤسسات المجتمع المدني. ومن البديهي أن الرجل منا لا يستطيع أن ينهر ابنه ويمنعه من التسول بينما يقف هو علي الناصية الأخري ويمد يده للمارة. ولكي تمتلك الحكومة الحق في نهي مؤسسات المجتمع المدني عليها أن تمتنع عن التسكع بين حكومات الدول والصناديق الدولية طلبًا للمعونة والقرض، ولدينا من الإمكانيات المعطلة ما يغني عن هذا. وأما عن السؤال الاستنكاري الشنيع: ما مصلحة أمريكا وكل المانحين في تبذير أموالهم علي مصر؟ فإن السؤال يشمل ما تتلقاه منظمات حقوق الإنسان وما تتلقاه الحكومة ومؤسساتها علي السواء. وبالتأكيد هناك مصلحة واحدة في الحالتين تحركان أمريكا المحكومة بعقدتي تركيا وإيران. ولهذا تريد الإبقاء علي مصر بين الحياة والموت. المطلوب ألا تكون هناك دولة ناجحة وشديدة الكفاءة علي حدود إسرائيل (نموذج تركيا) وألا تسقط في مجاعة تضيعها بعيدًا عن صداقة أمريكا إلي الأبد(نموذج إيران). ومصر التي تتلقي المعونة من 1979 استمرأت تسلم خبزها من الفرن الأمريكي بدلاً من أن تخبزه من قمحها وأهملت شواطئها ومراعيها لتبحث عن أسماك ولحوم مجمدة تشتريها بالكاش الأمريكي. وعندما يصرخ صارخ ويطق له عرق النسا: يا ناس يا هوو، هل هناك مصري يقبل باقتطاع 150 مليون من المعونة المخصصة للمواطن لصالح جمعيات حقوق الإنسان، فالأمر يشبه أن يعطيك محسن في يدك شيئًا ثم يعطي ابنك شيئًا. هل يملك متلقي الحسنة أن يقول للمانح هذا عيب لا تعلم ابني التسول؟! أمريكا تحدد كل شيء في المنحة، توجه مبالغ محددة لمشروعات محددة وتعرف نسبة العمولات وتحدد مبلغًا يعود إلي أمريكا مرة أخري في شكل أجور لمكاتب استشارية تجبرنا علي شراء دراسات الجدوي منها. وكان تمويل حقوق الإنسان آخر بند حددته أمريكا في منتصف التسعينيات عندما لاحظت أن النظام ماض في غباوته ويتجه بالبلاد إلي الضياع فقررت أن تمول هذه المكاتب لكي تفتح ثغرة صغيرة في جدار الاستبداد تؤخر سقوط النظام. ويقول تيموثي ميتشل الأمريكي اليساري الخبير بمصر وسياسات أمريكا فيها أن الإدارة الأمريكية تتوخي من وراء تمويل منظمات المجتمع المدني فتح الشرايين الأساسية للنظام لكي تظل مصر علي قيد الحياة من دون الوصول إلي الديمقراطية الحقيقية. ويدلل ميتشل علي استنتاجه بأن أمريكا التي تدفع لمنظمات حقوق إنسان تعمل في المدن وبين الطبقة الوسطي، ليست مستعدة لدفع دولار واحد لاتحاد العمال. ويبدو أن الأمريكي الطيب كان يتصور أن لدينا اتحاد عمال مستقل مثل نقابات بولندا التي أسقطت الشيوعية. هذه هي إذن مصلحة أمريكا، وعلي الحكومة أن تتخلي عن التسول قبل أن تنهر المنظمات المدنية، ليتخلي المجتمع كله عن مد اليد ونغادر الحالة المقسومة لنا: حالة ما بين الحياة والموت.