يوشك علي الانتهاء كالجملة الناقصة التي وضعنا لها "المبتدأ" لكننا لم نضع "الخبر" بعد ساعات تفصلنا عن لحظة ميلاد العام الجديد الذي نرجو ان يحمل بُشريات الخير لثورتنا البيضاءولمصرنا الحبيبة، وان يزيل من حلوقنا مرارة الحنظل التي علقت بها بعد ان كنا ذقنا حلاوة الثورة واستجابة القدر لإرادة الشعوب . لم يكن 2011 عاما كأي عام، ولا كانت أيامه كأي أيام .. نقطع آخر ورقة في النتيجة ونلقيها لنستقبل غيرها بكل بساطة ، وقد نكسر وراءه "قلة" كعادتنا التراثية عند مغادرة ضيف غير مرغوب فيه. انه عام الثورة المصرية وهبوب رياح التغيير، عام جاء واوشك علي الانتهاء كالجملة الناقصة التي وضعنا لها "المبتدأ"، لكننا لم نضع "الخبر" بعد، او كالنهايات المفتوحة في الدراما التي تترك المتلقي يسرح بخياله ويحاول ان يتكهن بالسيناريوهات التالية. ومع انني لا اميل كثيرا لانتظار نهايات حاسمة عند الاستعراض الزمني للأحداث لأنه من العسف ان نعقد صلة وهمية بين نهاية عام وبين نهاية أحداثه، ولقناعتي بأن كل عام يسلم " الراية" للعام التالي ويحمله تبعات وتداعيات احداثه، تماماً مثلما فعل عام 2010 واختتم ايامه بثورة الياسمين التونسية، ولم يكن احد يتخيل امتداد عواصف الثورات العربية بهذا التلاحق السريع، إلا ان عام 2011 كان عاما مميزاً ومثيراً بلا شك لشهية الرصد التاريخي. فقد بدأ محملا بالآمال العريضة في التخلص من الحكام المستبدين، والأنظمة القمعية الفاسدة. شهد خلع مبارك وبدء محاكمته في مصر في اول سابقة من نوعها في عالمنا العربي، وشهد قتل القذافي في ليبيا في مشهد مروع ترتعد له الأوصال، وخلع انياب علي عبد الله صالح في اليمن وإجباره علي الرحيل، وزعزعة مقعد بشار الأسد في سوريا. لكنه مع ذلك جاء مخضبا بدماء الشهداء في بلدان الربيع العربي، ومشوباً بكثير من القلق علي مستقبل الثورات العربية، وينتهي مفعماً بالتوجس مما يحاك لهذه الثورات من مؤامرات لإجهاضها. اما أرض الكنانة التي ذكرت بالإسم في القرآن الكريم خمس مرات . وأسبغ عليها رب العزة من فضله سمت الأمان »ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ« (99 سورة يوسف)، فثمة خصوصية فريدة لتطورات ثورتها، وينظر لها العالم بترقب واضح. ربما بسبب هذه الخصوصية تحديدا تعرضت ثورة يناير لأكبر هجمة من هجمات الثورات المضادة المعروفة في اعقاب الثورات. من اللافت للانتباه ان اول من اتي علي ذكر الثورة المضادة ونبه الي مخاطرها وأهدافها كان رئيس الوزراء السابق د. عصام شرف، ولم تكتسب تحذيراته الثقل الملائم لها ولم تؤخذ بالجدية الملائمة. كانت كل تجليات الثورة المضادة في مراحلها الأولي وضع العراقيل أمام حكومة الثورة حتي لا تحقق الأهداف المنشودة ، وتنشغل في تلبية مطالب واحتجاجات فئوية متعددة من شأنها تعطيل عجلة الانتاج وتؤدي الي تدهور الاقتصاد وإصابته بالشلل ثم تحميل الثورة مسؤولية الانهيار والخراب رغم ان البلد كانت منهوبة تماما منذ ايام الرئيس المخلوع. وكان من ذكاء وسائل الثورة المضادة اشعال حرائق الفتنة الطائفية بذات الأسلوب الذي كان قائما في العصر البائد بحيث لا ينتبه الناس اليها. الثورات المضادة ظواهر ملازمة لثورات الشعوب، تاريخيا عرفها الانجليز بشكل ما واطلق لفظ اعداء الثورة علي»اليعاقبة« الذين كانوا يرون بأحقية آل ستيوارت في عرش انجلترا منذ عام 1688 وعرفته الثورة الفرنسية حين اطلق علي كل من عادي الثورة التي قامت في 1789، وكان الجيش الأبيض وانصاره أولئك الذين عادوا البلاشفة هم نموذج للثورة المضادة في المانيا. حتي الحرب الأهلية في اسبانيا يري بعض المؤرخين انها كانت احد تجليات الثورة المضادة. اللافت ان الثورات المضادة بدأت ثورة افكار ولم تتخذ مظهرا عنيفا إلا في بعض الحالات المتأخرة التالية لحالتي انجلترا وفرنسا. جنب الله مصر شر الثورة المضادة ولؤم اعدائها المتربصين بها، وربنا يعدي يوم 25 يناير علي خير. صناعة الخوف محير جداً امر المجلس العسكري الذي يحكمنا مؤقتاً (كما نأمل) ولحين انتخاب رئيس مدني للبلاد. كلنا نذكر خطاب تخلي المخلوع عن المنصب الذي القاه نيابة عنه اللواء عمر سليمان و جاء فيه قرارتكليف المجلس الأعلي للقوات المسلحة بإدارة البلاد، يعني تولي امر السلطة بعد خلع الرئيس السابق لكن بناء علي تكليف منه(!) وليس بناء علي نص اواعلان دستوري .. مع ذلك ارتضت الجماهير الغفيرة هذا الوضع وبايعت المجلس العسكري علي وعد منه باحتضان الثورة وبعدم اطلاق النار علي ابناء الشعب، وبهذه المبايعة حصل المجلس العسكري علي الشرعية التي كان يفتقراليها .. شرعية ثورية رائعة توجت بالتحام الجيش مع الشعب والثورة التحاماً مذهلاً. ومرت الأيام فإذا بها تحمل تحولاً خطيراً في علاقة المجلس العسكري بالشعب والثوار. فبعد ان اذابت قلوبنا التحية العسكرية التي اداها اللواء الفنجري لأرواح الشهداء إذا به يرفع إصبع التحذير والتهديد في وجوه الثوار.وبعد ان كانت لغة الاحترام تحكم العلاقة بالكتاب والإعلاميين، يظهر اللواء الرويني ليكيل الاتهامات لبعض اصحاب الأقلام. وكلما انحرق وجه من وجوه اعضاء المجلس أطل علينا وجه جديد ينذر ويهدد. وبما ان الشيئ بالشيئ يذكر فقد اذهلتني اللهجة المتعالية الآمرة الناهية التي استخدمها اللواء عمارة في مؤتمره الصحفي، وأذهلني اكثر ذلك الصمت الذي خيم علي الزملاء الحاضرين لتغطية هذا المؤتمر وعدم احتجاجهم علي الأسلوب المهين الذي خوطبوا به ولم ينتفض احد منهم ولو حتي من باب العتب او لفت النظر لما يليق بأداء أحد اعضاء المجلس العسكري، وما لا يليق. أكثر من هذا، لم يقتصر الأمر علي تحول لغة خطاب المجلس العسكري، بل تعداه الي التحول الخطير في ممارساته.وبدلا من ان يكون المجلس العسكري والقوات المسلحة هما الحاميان للثوار انطلقت الاعتداءات السافرة والانتهاكات المهينة علي الثوار رجالاً ونساءً. الأمر الذي يدفعني للتساؤل: هل تغيرت العقيدة القتالية للجيش المصري؟ وهل تبدل مفهوم وتوصيف العدو في اذهان العسكريين او شابته الضبابية؟ وإذا كنا جميعا نؤمن بالمهمة الأساسية للجيش وهي حماية الوطن وحدوده فمن أجل من يحمي الجيش هذا الوطن؟ منذ شهور والاتهامات تنهال علي الناشطين السياسيين بتلقي الاموال من الخارج ولم تعامل تلك الاتهامات - لو صحت -بالمعاملة القانونية اللازمة ولم يظهر دليل واحد علي صحتها، وفي الآونة الأخيرة أخذت نغمة جديدة تسري بالتحذير من المؤامرات التي تهدف الي اسقاط الدولة المصرية، وهنا يلح السؤال: لماذا لم تعلن الأطراف الضالعة في تلك المؤامرات وتحاكم؟ من المثير للريبة استخدام فزاعة المؤامرات الخارجية لإثناء المتظاهرين عن احتجاجاتهم وتأليب الشعب علي الثورة والثوار وتشويه صورة ميدان التحرير الذي ولدت فيه الثورة ، ومنه حصل المجلس العسكري علي شرعيته الثورية. ولو صحت هذه المزاعم وثبتت لكان الثوار هم اول من يتصدون لهذه المؤامرات وهؤلاء المتآمرين. من العيب والخطأ الجسيم ان يعتمد المجلس العسكري علي اسلوب الاتهامات المرسلة،بلا سند او دليل يقيني ظاهر، وإلا كان يعيد انتاج اسلوب النظام البائد، وهذا مانربأ بمؤسستنا العسكرية عنه. وكان احري بها ان تتصدي للبلطجية والخونة وفلول النظام السابق و"الطرف الثالث" واللهو الخفي بدلا من تركهم يعيثون في الأرض فساداً. هل المطلوب ان يترحم الناس علي ايام مبارك؟ كرامة الصحفيين أحيانا اتساءل هل نطلب من الآخر احترام كرامة الصحفيين بينما الصحفيون انفسهم لا يحافظون علي كرامة بعضهم؟ سؤالي لا يهدف لإدانة زملاء المهنة لكني اتوجه به الي الزميل ممدوح الولي نقيب الصحفيين الذي أتي بسابقة لامثيل لها في حياتنا المهنية وفي تاريخ النقابة. بعد ان قرأت مقال زميلتي الأستاذة نهاد عرفة في الأخبار، حول الواقعة المؤسفة تحريت عنها من اصحابها واصابتني غصة. فقد تلقي السيد النقيب شكوي من احد المواطنين ضد زميل صحفي. ولأن المواطن شقيق للزميل المفقود رضا هلال الصحفي بالأهرام ويدرك قيمة النقابة ويعلي من شأنها ويحترم ولايتها علي اعضائها فقد آثر ان يتوجه بشكواه لنقابة الصحفيين لتنظر في امرها وتتخذ ما تراه ضد احد اعضائها( المشكو في حقه)، وكان بمقدوره ان يسلك من البداية السبيل القانوني للحصول علي حقه. وبدلا من ان يقوم السيد النقيب بإحالة الشكوي الي احدي لجان النقابة المعنية بمثل تلك الأمور او يأمر بتشكيل لجنة خاصة للتحقيق في الشكوي ورفع توصياتها له، اذا به يحيلها مباشرة الي النائب العام بقرار منفرد ودون عرض الموضوع علي مجلس النقابة. ما يثير دهشتي ان الزميل ممدوح الولي كان دائما ما يطرح موضوع ترسانة القوانين المقيدة للحريات اثناء حملته الانتخابية لمنصب النقيب وينبه الي ضرورة التصدي لها وتغييرها والي الدور المحوري الذي ينبغي ان تقوم به النقابة في هذا المضمار. الغريب ايضا ان القانون الحالي ينص علي ضرورة حضور احد اعضاء مجلس النقابة مع اي زميل يخضع لأي نوع من انواع التحقيق القانوني سواء أمام القضاء او داخل داره الصحفية. فكيف يتخلي النقيب عن هذا الواجب تجاه احد اعضاء النقابة، وكيف يحرم النقابة من حقها في الولاية علي اعضائها ومحاسبتهم اذا لزم الأمر؟ الموضوع برمته ينذر بتمييع المفاهيم النقابية الراسخة منذ زمن الآباء المؤسسين لنقابة الصحفيين،ويكشف عن عدم وضوح الرؤية فيما يخص فلسفة دور النقابات وواجبات النقابة نحو اعضائها والتي يتصدرها واجب حماية اعضاء النقابة وتأمين حقوقهم والدفاع عنهم ومؤازرتهم في ازماتهم،وإن كان هذا لا يعني بالطبع التجاوز عن اخطائهم او التغطية عليها. لا أريد ان اصدق ما أشار اليه الزميل بطل الواقعة من ان الدافع وراء احالته للنائب العام كان تصفية حسابات انتخابية. الصديق العزيز ممدوح الولي اظنني لا احتاج لتذكيرك بحديث الرسول الكريم" كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته". "رحيل" هاڤيل تثير مسيرة حياة الرئيس التشيكي ڤاتسلاڤ هاڤيل الذي رحل عن عالمنا قبل ايام عدة تأملات في النفس ومقاربات يصعب الا تطرأ علي الذهن لاسيما ونحن نودع عام الثورات العربية، ونرقب بقلق ما تواجهه الثورة المصرية من عراقيل وشراك خداعية منصوبة في طريقها. حياة هافيل تثبت حقيقة انه من السهل جدا ان تكون معارضا فذا، لكن من الصعب ان تكون حاكماً ناجحاً. التأمل في قصة حياته وقراءة اعماله او بعضها يثير سؤالاً فلسفيا حول مدي قدرة رومانسية المبدع علي خلق حاكم رشيد، وعن قدرة هذه الرومانسية ان تكون اساساً متيناً لرجل دولة مميز. فالرجل كان كاتبا مسرحيا مبدعا ورائدا من رواد المسرح العبثي، وكان مفكرا ومثقفا بارزا يعارض النظام الشيوعي في بلاده،عرف السجن اكثر من مرة، واعتبره العالم ملهم الثورة السلمية في بلاده أي ما سمي ب "ربيع براج". كان يؤمن بقوة الضعفاء او جموع الشعب التي تعطي الشرعية، وبعد قيام الثورة حمله الثوار ودفعوه دفعا عبر الانتخابات الي مقعد الرئاسة الذي لم يكن يطمح فيه او يصبو اليه، جلس عليه من 1989 وحتي 2003 فترأس بذلك بلاده في فترتيها الموحدة حين كانت تشيكوسلوڤكيا ثم المنفصلة حين اصبحت دولة التشيك.انقلب عليه الشعب بعد ان حكم وأخفق برهافته الفنية في الممازجة بين الفنان بكل مثالياته، وبين السياسي بكل مراوغاته واكاذيبه، ولم يستطع التعامل بواقعية مع المشكلات والنزول بها من علي خشبة المسرح الي ارض الواقع. في مسرحيته "الرحيل" التي كانت أول ما قدمه هافيل للجمهور بعد عشرين عاما من الابتعاد عن الكتابة للمسرح والانخراط في عالم السياسة والحكم، تناول في إطار سياسي قصة مستشار يجبرعلي ترك الفيلا التي خصصتها له الحكومة لتتبدل بعد ذلك أخلاقه ومبادئه ويتحول "ريجر" الذي كان زعيما وصاحب مبادئ إلي شخص ضعيف أناني يتخلي عن قيمه ويستسلم لابتزازات قيادة جديدة. وتعكس المسرحية التي مزجت الملهاة بالمأساة حالة الانهيار الأخلاقي التي صاحبت الثورات التي شهدتها وسط أوروبا علي مدار تاريخها المؤلم خلال القرن العشرين .اعتمد فيها هافيل حسب كلامه علي تجارب في عالم منحل تنهار فيه القيم ويضيع فيه الإحساس بالأمان. وبدأ "هافيل" كتابة المسرحية عام 1989 حيث استوحاها من حركة "ربيع براج" عام 1968 التي كانت تهدف لإصلاح النظام الشيوعي. الطريف ان هاڤيل انتقد في مسرحيته الفترة من حكمه التي شهدت تحول البلاد من الاقتصاد الموجه الشيوعي إلي اقتصاد السوق الرأسمالي وما شاب هذا التحول من عمليات اختلاس وفساد، وكأنه بخلاف صراحته مع النفس كان يضع لنا »الكاتالوج« لمصير الثورات الأخلاقية الساعية للمثاليات التي ماتلبث ان تتحول الي ظواهر انسانية لا أخلاقية.