بما أن الرئاسة فن تطويع المستحيل لخدمة الواقع.. وتطويع الواقع لمساحة من الخيال الفضفاض الذي يسمح بتحقيق الأمنيات والأحلام الناصعة للشعوب والأوطان، فإن أفضل القادة هم الذين يمتلكون حسا إبداعيا، وسعة خيال تحقق التطوير والنهضة... ففي عقول المبدعين تصورات غنية لإثراء وبناء الإنسانية بتفرد وحكمة واكتمال وجمال.. فحيثما يوجد الفن والإبداع تنطلق الرؤي الفريدة لتنمي الحياة، وتحصنها بقوة الرغبة الخالصة المخلصة في التنوير والتقدم.. كما أن القائد المبدع له قلب يسع الخليقة، ويستوعب الحاجات الإنسانية التي يشارك شعبه الحلم بها والسعي لتحقيقها، كي يطابق الواقع الجديد خياله الإبداعي المبهج، فالمبدع الأصيل يبني في عالمه الفني واقعا افتراضيا ينفي به قتامة الحقيقة بنقدها وهدمها كرد فعل رافض وثوري ومعارض لمثقف لديه حلول للتغيير وتصورات المستقبل، وبالتالي فإن تمكين المبدع من قيادة دولة، هو تفعيل لقوة ضميره الناصع، الذي يؤرقه القهر والظلم والفساد والألاعيب السياسية المخنثة، وسوف ينأي بالطبع عن مرض الالتصاق الأبدي المحموم بكرسي الحكم، فتلك التشوهات النفسية مخصصة لذوي العقول الخاوية والكفوف الدموية الشرهة، وللسلالات المعيوبة للحكام العرب المعاصرين مثل صدام حسين وولديه، ومبارك وولديه، والأسد ووريثه، وعبدالله صالح وابنه، والقذافي وأبنائه!!! وفي التاريخ العالمي المعاصر، تجربة رئاسية مدهشة وفريدة قاد خلالها الأديب والشاعر والكاتب المسرحي والسياسي والمناضل ڤاتسلاڤ هاڤيل بلاده كرئيس لفترتين رئاسيتين أولاهما إبان ماعرف باسم الثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا السابقة عام 9891 بعد اندحار الشيوعية، التي كان هاڤيل أحد أشرس معارضيها بل زعيم المعارضة ضد الحكم الشيوعي في بلاده، حتي أنه سجن في سبعينيات القرن الماضي وعندما انتخب رئيسا لبلاده عام 9891 كان وصوله للرئاسة إنجازا نادرا لمبدع وأديب وسياسي فخم أطلقوا عليه مهندس إسقاط الشيوعية في وطنه، وقد ظلت رئاسته الأولي حتي عام 2991 عندما قدم استقالته لفشله في الحفاظ علي وحدة تشيكوسلوڤاكيا التي انقسمت إلي جمهوريتي التشيك والسلوڤاك، وقد أعيد انتخابه عام 3991 ليستمر رئيسا لبلاده حتي عام 3002. قام ڤاتسلاڤ هاڤيل المولود عام 6391 (57 سنة الآن) عندما تولي الحكم عام 9891، بإطلاق سراح العديد من السجناء الذين اكتظت بهم السجون والمعتقلات، لاعتقاده الراسخ بأنهم لم ينالوا محاكمات عادلة في ظل الحكم الشيوعي وتم سجنهم ظلما، وكان هاڤيل قد كتب أكثر من عشرين مسرحية، أبرزها نص مسرحي بعنوان »حفل الحديقة« سخر فيها من النظام الشيوعي، كما أنتج عدة نصوص نثرية سياسية الطابع وبعض القصائد الشعرية التي لم تخل من الضمير الإنساني والرؤية الفلسفية للحياة... وهاڤيل، كغيره من المبدعين الذين يتمتعون بالأصالة، يتجاوز وطنه إلي رحاب الإنسانية كلها، فيؤيد المظاليم ويعارض المستبدين والمعتدين، ولايزال منذ خروجه من الرئاسة في بلاده يمارس دوره السياسي علي نطاق عالمي كونه (كأديب ومبدع ومفكر) يتجاوز بمراحل كيان الرئيس أيا كان دوره وإنجازه... فهاڤيل هو الأكثر حضورا في المحافل الدولية السياسية والإبداعية.. يقول رأيه الساطع الرائع في قضية فلسطين، فيعلن رفضه لسحق أبرياء غزة بسلاح الصهاينة يقول قوله عنها: »في قطاع غزة يتم إعدام الإنسانية«.. كما يحث شيمون بيريز رئيس إسرائيل علي الالتزام بعملية السلام وبمبدأ الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية.. وفي الصاعقة اليابانية الأخيرة، حين ابتلعت موجات التسونامي الشرسة بلادا ومنشآت علي الشاطئ الياباني، مخلفة دمارا وخرابا وأذي فتاكا من تسرب الإشعاع النووي، تضامن هاڤيل مع الشعب الياباني وحكومته المنكوبين.. أما الثورة الليبية، فقد ساءه أن يري الثوار يواجهون الآلة العسكرية لمأجوري القذافي وكتائبه فأيد تدخل الناتو حتي تتوازن القوة بينهم وبين الثوار الذين حاربوا في بداية الثورة بأسلحة بدائية وسقط منهم العديد من الشهداء نتيجة عدم التكافؤ بين مرتزقة القذافي المدججين بالعتاد والسلاح وبين الثوار الانتحاريين من أجل التخلص من نظام القذافي المختل . وعن ڤنزويلا وروسيا يقول هاڤيل: »الحرية معتقلة في ڤنزويلا والعدالة قتيلة في روسيا«!!! حصل ڤاتسلاڤ هاڤيل علي جائزة غاندي للسلام لإسهاماته في السلام العالمي والتزامه بحقوق الإنسان، وانتهاجه لأساليب الزعيم الراحل المهاتما غاندي، كما حصل علي الميدالية الرئاسية الأمريكية للحرية، وميدالية الحرية من فيلادلفيا. والرئيس السابق، المبدع الحالي وإلي الأبد، ڤاتسلاڤ هاڤيل المضيء بالإنسانية، المشع بالفن، يستعد لإخراج فيلم سينمائي ليدخل بذلك غمار الإبداع المرئي بعد أن ملك زمام الإبداع المكتوب. الطريف أن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين رأي يوما أن سكة الإبداع ربما تشفيه من داء القتل والدموية، فشرع في تأليف رواية بعنوان »زبيبة والملك«، وقام بإملاء دراما حياته علي رئيس مؤسسة السينما العراقية في عهده واسمه أمير المعلا وصيغت في فيلم بعنوان »الأيام الطويلة« أخرجه المخرج المصري توفيق صالح، وكان المنافقون من مدعي النقد يكتبون الرياء بعينه علي إبداع الرئيس العراقي الدموي.. مثله أيضا كان القذافي يكتب ما يظنه إبداعا، ويدفع المال ليستجلب الأسماء المرموقة من النقاد والصحفيين ليشيدوا بالخزعبلات الفكاهية التي كان أبرزها وأفدحها ماصدر عن رأسه المضطرب فيما أسماه الكتاب الأخضر؟! وكان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر أحد الذين طرقوا مجال الإبداع في رواية بعنوان : »في سبيل الحرية« والتي تحولت في عهده إلي فيلم سينمائي ، لكنه لم يبحث عن إشادة أدبية ولا ادعي الإلهام الأدبي ولا كرر التجربة، رغم أنه كان قارئا نهما ومثقفا ومطلعا قبل أن يمارس السياسة ويرأس مصر، وبعد ذلك كان ينتقي قراءاته لضيق وقته كرئيس وقائد للأمة العربية في زمن مجدها الغابر!!!