لعل السبب الاهم والاكبر للعثرات التي عانينا منها خلال المرحلة الانتقالية حتي الان هو اننا نصنع دولة ديمقراطية بدون ديمقراطيين.. اي نصنعها بأيدي من يرفعون بذهو شعارات الديمقراطية ويتغنون بمبادئها ليل نهار، بينما لا يلزمون انفسهم اولا بهذه المباديء وكأنهم معفون من الامتثال كغيرهم للقواعد الديمقراطية.. وهكذا بات قدرا ان نضع لبلادنا شيئا بغير ايدي المؤمنين به.. حدث ذلك في الستينيات حيمنا حاولنا تطبيق تجربة اشتراكية خلال الستينات في الوقت الذي كنا نطارد فيه الاشتراكيين ونزج بهم في المعتقلات والسجون.. وحدث ايضا عندما سعينا خلال السبعينيات وما بعدها للتحول الي نظام رأسمالي فاخترنا ان يتم ذلك بأيدي عدد من المنتسبين زورا للرأسمالية الذين اعتبروا الرأسمالية ايذانا ببدء الاستيلاء علي اراضي وثروات الوطن! والان.. تتكرر المشكلة مجددا نصنع ديمقراطية بأيدي غير المؤمنين بالديمقراطية والذين يتعاملون مع المباديء الديمقراطية بشكل انتقائي.. يقبلونها حينما تكون في صالحهم، ويرفضونها حينما تتعارض مع هذه المصالح! مشكلتنا الحقيقية ان ايماننا بالتعددية ناقص.. وقبولنا للآخر غير مكتمل.. وحرصنا علي حقوق الاقلية، سواء كانت سياسية او دينية غير كاف.. واعترافنا بحق الاغلبية في ان تقرر مشكوك فيه.. لذلك خضنا صراعات وصراعات شتي فيما بين بعضنا البعض.. وقام المتنافسون السياسيون بيننا بعمليات استعراض للقوة لا داعي لها أثارت الخوف واغتالت الثقة بينهم وحولت الكل يتربص بالكل ويضيق صدره بالغير، وانتشرت بيننا عمليات التكفير والتخوين وبات الاقصاء سهلا، خاصة بعد ان اسبغ عليه البعض صفات الثورية. ولم تفلح تجربة الوحدة بين كل الفرقاء المختلفين سياسيا ودينيا التي شهدناها خلال ايام الانتفاضة الثورية الاولي في ازالة الشكوك المزروعة في نفوس هؤلاء الفرقاء تجاه بعضهم البعض.. فالتوحد الذي كان موجودا ايامها من اجل اسقاط النظام انفرط عقده سريعا فور تنحي مبارك وتحديدا مع الاستفتاء علي التعديلات الدستورية او مع بداية تشكيل السلطة الجديدة التي ستحل محل سلطة مبارك. بل حتي التوحد الذي يتباهي به باستمرار عدد من شباب الثورة اثناء التواجد في الميدان لا يستمر عادة طويلا ويتحطم سريعا علي صخرة عناد العدد الاقل منهم.. هم عادة قادرون علي الاتفاق حول بدء اي اعتصام لكنهم غير قادرين علي الاتفاق حول موعد انهاء هذا الاعتصام حيث لا تقبل اية اقلية حتي بين الشباب وليس الكبار فقط برأي الاغلبية! ورغم ان الاخوان يبدون الان وكأنهم هم الاكثر ديمقراطية من غيرهم، حيث يتمسكون بنتائج الصناديق الانتخابية.. لكنهم في سعيهم لحصد أصوات الناخبين ارتكبوا افعالا واستخدموا اساليب تتعارض مع مباديء الديمقراطية.. مثلما حدث حينما استخدموا العاطفة الدينية في التأثير علي الناخبين وحينما قدموا لهم اموالا وسلعا وخدمات لاستمالتهم الي جانبهم.. ونفس الشيء فعله السلفيون وهم يخوضون ككتلة دينية وسياسية الانتخابات البرلمانية، فاعتبروا خصومهم السياسيين خصوما دينيين.. اي حولوا المنافسة السياسية الي منافسة دينية بين مسلمين وكفار! وعلي الجانب الآخر.. فان القوي المدنية الليبرالية واليسارية والقومية لم تقبل في قرارة نفسها بالاحتكام لصناديق الانتخابات.. وبدأ ذلك بالمطالبة بتأجيل العملية الانتخابية اطول وقت ممكن.. وعندما بدأت هذه العملية ومضت بدون عنف كانوا يتوقعونه خلالها لم تتحمس بعض عناصر من هذه القوي لاتمامها، خاصة بعد ان اظهرت تفوقا للقوي والتيارات الدينية، خاصة الاخوان والسلفيين.. وذلك رغم ان هذه القوي المدنية بددت كل وقتها فيما لا يفيد انتخابيا، بل ربما يضر انتخابيا، حينما حبست نفسها في حدود دائرة الشاشة البيضاء، في الوقت الذي كان الاخوان فيه ينتشرون في القري والنجوع والاحياء الشعبية والمناطق العشوائية بالمدن.. لذلك كان لافتا ان تكرر عناصر من هذه القوي نفسها في مطالب ليست جديدة مثل المجلس الرئاسي المدني او حكومة الانقاذ الوطني. اما القوي الشبابية الثورية فان من لم ينخرط منها في العملية السياسية القائمة اي لم يبادر بتشكيل احزاب والاشتراك فيها ولم يشارك في العملية الانتخابية فانهم نظروا الي انفسهم باعتبارهم وحدهم اصحاب الثورة دون شريك وبالتالي من حقهم املاء ما يرغبون ويريدون علي الجميع.. لكن المشكلة ان ما رغبوا فيه اختلفوا فيما بينهم حول التفاصيل. وهكذا.. لاننا نصنع ديمقراطية بدون ديمقراطيين كان طريقلا لهذه الديمقراطية محفوفا بالمخاطر، ومليئا بالاشواك وحافلا بالخلافات ابتداء من الخلاف حول الدستور اولا ام الانتخابات اولا، وانتهاء الان بالدستور اولا ام انتخاب رئيس الجمهورية اولا. لقد كان هناك دائما للاسف عدم ايمان بالتعددية السياسية واصرار علي الانفراد بالقرار وفرض الرأي علي الاخرين.. وكأن الواحد من هؤلاء الفرقاء السياسيين قد امتلك وحده وحصريا الحكمة والحقيقة والصواب بينما كل ما يقول به غيره خطأ وخطيئة وباطل. وهذا يفسر لماذا طالب البعض بمقاطعة الانتخابات.. ولماذا رغب اخرون في عدم اتمامها.. ولماذا تخلي الاخوان عن الترشح لثلث المقاعد البرلمانية فقط كما اعلنوا في البداية.. ولماذا خاض السلفيون الانتخابات مستقلين عن الاخوان.. ولماذا ايضا اخفق الليبراليون في التحالف ممع بعضهم البعض.. ولماذا لم تنجح ائتلافات الشباب في الانصهار في حزب واحد او حزبين او حتي ثلاثة احزاب. انه يفسر لماذا لا تعترف الاقلية برأي الاغلبية عادة ولماذا لا تعترف الاغلبية بوجود الاقلية اصلا. هذا هي مشكلتنا الحقيقية وعندما ستجد حلا لها ستمضي في طريقها للدولة الديمقراطية بدون عثرات.