تنتظرنا معركة سياسية كبيرة هي معركة الدستور الجديد.. وليس صحيحا، كما يشيع البعض انه كان يمكن تفادي هذه المعركة لو بدأنا بالدستور أولا قبل الانتخابات البرلمانية.. لاننا كنا سنضطر من اجل اعداد الدستور الجديد لاجراء انتخابات لاختيار لجنة تأسيسية، نظرا لرفض اختيارها بالتعيين. نتائج انتخابات اللجنة التأسيسية لم تكن ستختلف كثيرا عن نتائج البرلمان.. اي انها كانت ستأتي لنا بالنسبة الاكبر من اعضائها من الاخوان والسلفيين.. بما يعني اننا كنا سنجد انفسنا في ذات الحال الذي نعيشه الان. وكل ما حدث هو اننا اجلنا معركة الدستور بضعة اشهر كان خلالها الصراع يتم بشكل مستتر. ومعركة الدستور لن تدور - كما يشاع ويعتقد - حول الهوية.. لاننا تجاوزنا الخلاف حول هذه الهوية، وبات لدينا توافق في هذا الصدد. ولكنها سوف تدور حول طبيعة النظام السياسي، وتوزيع الصلاحيات داخل السلطة التنفيذية، بين رئيس الجمهورية والحكومة، وهل تكون القوات المسلحة تحت اشراف رئيس الجمهورية ام تحت رقابة البرلمان المنتخب. ومن يتابع عن كثب ما يخرج من البيت الاخواني - حزبا وجماعة - من تصريحات سوف يتأكد ان المقومات الاساسية للدولة المصرية، وايضا الحقوق الاساسية لم تعد هي ما يهتم به الاخوان الان، لانهم لا يمكن ان يفكروا في الانتقاص الدستوري من الحقوق الأساسية للمواطنين، وسبق ان اقروا بها من قبل وحتي اذا كانوا يبغون الانتقاص من بعض هذه الحقوق عليها مثل حرية الابداع فهم لن يسجلوا ذلك علي انفسهم في الدستور انما سوف يفعلونه علي ارض الواقع وبشكل ملتو، وسوف يغطونه بالكثير من الذرائع مثل التعارض مع الدين أو التطاول علي الرموز الدينية.. اما هوية المجتمع فلا يوجد خلاف يذكر حولها. فلا احد ينازع في ان الاسلام دين الدولة وان مباديء الشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وان مباديء شرائع غير المسلمين هي المصدر الرئيسي للتشريعات المتعلقة باحوالهم الشخصية وشئونهم الدينية.. وبالتالي الاخوان مطمئنون الي ان صياغة الدستور فيما يتعلق بالحقوق الاساسية والهوية ستمضي بسهولة. اما ما يريد الاخوان الاطمئنان عليه فهو مساحة السلطة التي يتسابقون ويتنافسون من اجل الامساك بها.. واذا كان الاخوان قد حسموا امرهم في نهاية المطاف ان تكون الانتخابات البرلمانية تحديدا هي سبيلهم للوصول الي السلطة فان جل ما يعنيهم الان هو ان ينحاز الدستور الجديد للنظام السياسي البرلماني، وليس النظام الرئاسي.. بحيث يصير البرلمان هو صاحب الحق في تشكيل الحكومة، وان تكون هذه الحكومة ذات صلاحيات كبيرة تفوق صلاحيات رئيس الجمهورية، الذي يتعين ألا تتجاوز صلاحياته النطاق الشرفي فقط.. وقد كشف الاخوان احيانا خلال الفترة الماضية عن هذا الانحياز للنظام البرلماني، مستثمرين رفضا شبه عام لدي القوي السياسية المختلفة للصلاحيات والسلطات الواسعة التي كانت في حوزة رئيس الجمهورية، والتي ساهمت في تكريس الديكتاتورية ووأد الديمقراطية. واذا ظفر الاخوان بصلاحيات دستورية اكبر للبرلمان الذي يسعون للفوز بالعدد الاكبر من مقاعده فانهم بذلك سوف يضمنون لانفسهم دورا مؤثرا في السلطة والحكم يمكنهم فيما بعد من تحقيق ما يشاءون ويرغبون. وهذا هو سر رفضهم الشديد لمجرد التحاور وليس التوافق، حول قواعد يهتدي أو يسترشد بها البرلمان وهو يختار اعضاء اللجنة التأسيسية التي سوف تتولي صياغة واعداد الدستور الجديد.. وظهر ذلك جليا في رفضهم الحاد لورقة السلمي، والذي وصل الي درجة التظاهر من اجل إسقاطها رغم التعديلات التي اجراها السلمي عليها.. ثم ظهر ذلك جليا مرة اخري عندما انسحب الاخوان من المجلس الاستشاري الذي سبق ان شاركوا القوي السياسية في مطالبة المجلس الاعلي بتأسيسه وذلك حينما خشوا ان يناقش المجلس مثل هذه القواعد حتي ولو كانت استرشادية وليست ملزمة. وحتي يكتمل هذا الدور المؤثر في السلطة للاخوان فانهم سيظلون حريصين علي اخضاع المؤسسة العسكرية لرقابة البرلمان بشكل اكبر مما هو حادث في دستور 17 المعطل منذ 8 فبراير الماضي.. فهم لن يكفيهم اشراف رئيس الجمهورية علي القوات المسلحة من خلال رئاسته للمجلس الاعلي لها، انما سوف يسعون إلي ان يعهدوا بهذا الاشراف للبرلمان، الذي سيكون لهم اليد الطولي فيه.. اما منصب رئيس الجمهورية فليس مضمونا ان يفوز به مرشح قريب منهم أو بالاصح تحت سيطرتهم. وهكذا سيكون وضع القوات المسلحة في الدستور مجالا ايضا للمعركة القادمة التي تلوح في الافق حول الدستور الجديد بجانب طبيعة النظام السياسي! وهكذا.. جوهر المعركة القادمة حول الدستور واضح لا لبس فيه.. فهو لا علاقة له بهوية الدولة ولا بمباديء الشريعة الاسلامية، ولا حتي بتوصيف طبيعة الدولة المصرية الذي يقضي بانها دولة ديمقراطية تقوم علي المواطنة وحكم القانون، وتحترم التعددية، وتكفل الحرية والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص لجميع المواطنين دون تمييز أو تفرقة. انما جوهر المعركة هو التمكين من السلطة والسلطة وحدها التي يريد الاخوان ان يكون لهم النصيب الغالب فيها، وألا يعرقل الدستور الجديد ذلك أو يمنعهم من تحقيق هذا الهدف. فهم يريدون ان يحكموا عن طريق البرلمان بعد ان استعدوا للفوز بأكبر عدد من مقاعده في الوقت الذي انشغلت فيه القوي السياسية الاخري، ليبرالية وقومية ويسارية، بخوض المعارك الخطأ.. اما مع المجلس الاعلي للقوات المسلحة أو مع بعضها البعض. ولا سبيل لتفادي هذه المعركة، حتي ولو رغب البعض منا في ذلك.. لان الاخوان يجدون انفسهم قد امسكوا بفرصة العمر للوصول الي السلطة. أو الفرصة التي لم يسبق ان اتيحت لهم من قبل.. لذلك هم جادون بالامساك بها، ولن يفلتوها من ايديهم.. لكن هذه المعركة لن تحسمها - كما يتصور الاخوان - نتائج انتخابات مجلس الشعب والشوري التي يراهنون عليها الان.. انما سوف يحسمها الطريقة التي سوف تخوض بها القوي السياسية المختلفة هذه المعركة.. فهذه القوي في مقدورها اللجوء الي الشارع لغرض التوافق حول الدستور الجديد.. فاذا كان الاخوان ومعهم السلفيون قد لجأوا إلي الشارع لإسقاط ورقة السلمي، فان غيرهم قادرون علي فعل ذات الشيء واللجوء الي الشارع لمنع سيطرة تيار علي صياغة الدستور الجديد. واذا كنا في مصر نحاول الاهتداء بما يحدث في تونس - علي اعتبار انها كانت الاسبق في الثورة - فان المظاهرات والاحتجاجات لم تتوقف فيها، بعد الانتخابات رغم ان حركة النهضة التونسية تبدي من المرونة السياسية ما يفوق ما يبديه الاخوان من هذه المرونة.. لذلك الحل الوحيد المتاح والمتبقي امام جميع الفرقاء هو التوافق فقط حول الدستور الجديد.